وقال قيس بن ذريح:
تكنَّفني الوشاةُ فأزعجوني ... فيا للنَّاسِ للواشي المُطاعِ
فأصبحتُ الغَداةَ ألومُ نفسي ... علَى أمرٍ وليسَ بمُستطاعِ
كمغبونٍ يعضُّ علَى يديهِ ... تبيَّنَ غَبنهُ بعدَ البِياعِ
وقد عشنا نلذُّ الدَّهر حيناً ... لوَ انَّ الدَّهر للإنسانِ راعِ
ولكنَّ الجميعَ إلى زوالٍ ... وأسبابُ الفِراقِ لها دواعي
[الباب السادس عشر]
من لم يعاتب علَى الزَّلَّة فليس بحافظٍ للخُلّة
المعاتبة على الذُّنوب من المحبِّ والمحبوب قد تجري على ضروب فمنها معاتبة استتابٍ تقع على الارتياب ليزول الشَّكّ بما يجري فيها من الجواب ومعاتبة تقع بعد اليقين يقصد بها العاتب إلى أن يعلم هل من ذلك الذَّنب عذر أم هو داخل في باب الغدر ومنها معاتبة توقيف تجري على جهة التَّعنيف وهذه حال لا تكاد تجري بين المتحابَّين إلاَّ عند انقطاع الحال بينهما أوْ عند ضجرة شديدة تلحقهما أوْ تلحق أحدهما وأحمد أحوال العتاب صيانة الحال عن أن يجري فيها شيء من الاختلال بقيا على المذنب لا بقيا على المؤنِّب وترك جميع المعاتبة يدخل في باب الإهمال والموقِّف على كلِّ ذنب يوجب قطع المواصلة واتّصال العتب.
قال الحسن بن هانئ:
مُنقطعٌ عنكَ كانَ متَّصلاً ... أوْ نازلٌ بالفِناءِ فارتحلا
قد كانَ في الحقِّ أن يقالَ لهُ ... ماذا دعاهُ إلى الَّذي فعلا
ما عدلَ النَّاسُ عنكَ لي أملاً ... إلاَّ ثناهُ الرَّجاءُ فاعتدلا
وقال آخر:
حيِّ طيفاً من الأحبَّةِ زارا ... بعدَ ما صرَّعَ الكرى السُّمَّارا
قالَ إنَّا كما عهدْتَ ولكنْ ... شغلَ الحيُّ أهلهُ أن يُعارا
ولبعض أهل هذا العصر:
يا أخي كمْ يكونُ هذا الجفاءُ ... كمْ تشفَّى بهجركَ الأعداءُ
صارَ ذا الهجرُ لي غذاءً ولكنْ ... رُبَّما أتلفَ السَّقيمَ الغِذاءُ
سيِّدي أنتَ أينَ ذاكَ الصَّفاءُ ... أينَ ذاكَ الهوَى وذاكَ الوفاءُ
أنتَ ذاكَ الأخُ القديمُ ولكنْ ... ليسَ هذا الإخاءَ ذاكَ الإخاءُ
لي ذنوبٌ ولستُ أُنكرُ فاغفرْ ... فالتَّجنِّي علَى المقرِّ اعتداءُ
لي حقوقٌ أيضاً عليكَ ولكنْ ... ذكرُ مثلي لمثلِ هذا جفاءُ
وقال البحتري:
وكنتُ إذا استبْطأتُ وُدَّكَ زرتهُ ... بتفويفِ شعرٍ كالرِّداءِ المُحبَّرِ
عتابٌ بأطرافِ القوافي كأنَّهُ ... طِعانٌ بأطرافِ القنا المُتكسِّرِ
وقال آخر:
فلا عيشٌ كوصلٍ بعدَ هجرٍ ... ولا شيءٌ ألذُّ منَ العِتابِ
تواقفَ عاشقانِ علَى ارتقابٍ ... أرادا الوصلِ منْ بعدِ اجتنابِ
فلا هذا يملُّ عتابَ هذا ... ولا هذا يملُّ منَ الجوابِ
وقال آخر:
ألهْفَ أبي لمَّا أدمْتُ لكَ الهوَى ... وأصفيتُ حبِّي فيكَ والوجدُ ظاهرُ
وجاهرْتُ فيكَ النَّاسَ حتَّى أضرَّ بي ... مُجاهرتي يا ويلَ فيمنْ أُجاهرُ
وكنتَ كفيْءِ الغصنِ بينا يظلُّني ... ويعجبُني إذْ زعزعتْهُ الأعاصرُ
فصار لغيري واستدارتْ ظلالهُ ... سوايَ وخلاَّني ولفحَ الهواجرِ
ولبعض أهل هذا العصر:
إذا اشتدَّ ما ألقاهُ هوَّنَ علَّتي ... رضايَ بأنْ تحيى سليماً وأسقَما
فيا منْ يزيلُ الخوفَ عنِّي وفاؤُهُ ... بعهدي ومنْ لولاهُ لم أُمسِ مُغرَما
أكانَ جميلاً أن ترانيَ مُهملاً ... وتسكُتَ عن أمري ونهْيي تبرُّما
سأرعاكَ إنْ أكرمْتَني أوْ أهنْتَني ... وحسبُكَ نُبلاً أن تُهينَ وتُكرِما
وإنِّي لأستحْيي من الله أن أرى ... ظَلوماً لإلفي أوْ أرى مُتظلِّما
سآخذُ من نفسي لنفسكَ حقَّها ... وأصفحُ إن لم ترعَ عهدي تكرُّما
وما بيَ نفسي وحدها غيرَ أنَّني ... أصونُ خليلي أن يجورَ ويظلِما
ولو قيلَ لي اخترْ نيلَهُ أوْ صلاحهُ ... لآثرْتُ أن يُعصى هوايَ ويسلما
وقد كنتَ أولى بي من الشَّوقِ والهو ... ى وقد كنتَ أمضى في الضَّميرِ مُتمِّما
فما ليَ قد أُبعدْتُ حتَّى كأنَّني ... عدوٌّ وقد كنتُ الحبيبَ المُقدَّما
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه: