للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن بين الطرفين واسطة عادلة، فيها رقة تشاكل طباع المؤمنين، وحسن تجلّد يشبه أخلاق المتقين، فقد روي عن النبي صلى الله عليه أنَّه بكى على ابنه إبراهيم وقال: لو نفع الحزن حزنّا عليك حزناً هو أشدّ من هذا وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون، تدمع العين، ويحرق القلب، ولا نقول ما يسخط الرب.

[الباب الثامن والخمسون]

[ذكر]

[التزهيد فيما يفنى والترغيب فيما يبقى]

بلغنا أن أمية بن أبي الصلت أُغمي عليه في مرضه الَّذي مات فيه، فأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما، لا ثري فأعتذر ولا ذو قوة فأنتصر. ثمَّ أُغمي عليه ثمَّ أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما لا مال لي يفتديني ولا عشيرة تحميني، ثمَّ قال:

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قِلال الجبال أرعى الوعولا

كل عيش وإن تطاولَ يوماً ... صائرٌ مرَّه إلى أن يزولا

فاجعل الموت نُصب عينيك واحذرْ ... غولة الدَّهر إن للدهر غولا

أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لنافع بن لقيط القفعسي:

اذهبْ إليك فليس يعلمُ عالمٌ ... من أين يُجمعُ خطُّه المكتوبُ

يسعى ويأملُ والمنيَّةُ خلفه ... يوفي الأكام بها عليه رقيبُ

يسعى الفَتَى لينال أقصى سعيه ... هيهات ذاك ودون ذاك خطوبُ

لا الموتُ مُحتقرُ الصغير فعادلٌ ... عنه ولا كِبرُ الكبير مهيبُ

فلئن بُليتُ لقد عبرتُ كأنني ... غصنٌ تفيّأهُ الرياح رطيبُ

وكذاك حقّاً من يعمرُ يبلهِ ... كرّ الزَّمان عليه والتقليبُ

حتَّى تعود إلى البلى وكأنه ... بالكفّ أفوقُ ناصلٍ مغصوبُ

مرط الفداد فليس فيه مصنّع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيبُ

وقال لبيد:

المرءُ يأملُ أن يعيش وطول عيشٍ ما يضرُّه

تفنى بشاشتُه ويبقى حلوِ العيش مُرُّه

وتصرّف الحالات حتَّى لا يرى شيئاً يسرُّه

كم شامتاً بي إن هلكتُ وقائلاً لله درُّه

وقال أيضاً:

بلينا وما تَبْلى النجومُ الطوالعُ ... ويبقى الخيالُ بعدنا والمصانعُ

وما النَّاس إلاَّ كالديار وأهلها ... بها يومَ حلّوها ونغدو بلاقعُ

وما المرء إلاَّ كالشهاب وضوؤهُ ... يحورُ رماداً بعد إذْ هو ساطعُ

وما المال والأهلون إلاَّ ودائعٌ ... ولا بدَّ يوماً أن تُردَّ الودائعُ

أُخبَّر أخبارَ القرون الَّتي مضت ... أؤود كأني كلَّما قمتُ راكعُ

أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لُزومُ العصا تُحنى عليه الأضالعُ

فأصبحتُ مثلَ السَّيف أخلق جفنَه ... تقادُم عهد القين والنصل قاطعُ

أعاذِلَ ما يُدريك إلاَّ تظنناً ... إذا رحل السُّفّار من هو راجعُ

وذكر ابن الأعرابي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما في شعر العرب أحكم من شعر بعض العابدين:

لقد غرَّتْ الدُّنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها مُتحوَّلُ

فساخِطُ أمر لا يُبدَّلُ غيرهُ ... وراضٍ بأمرٍ غيرَه سيُبدَّلُ

وبالغُ أمرٍ كان يأملُ دونه ... ومُخْتلجٌ من دون ما كان يأملُ

وقال آخر:

يا موتُ ما أقساك من نازلٍ ... تنزل بالمرءِ علَى رغمهِ

تستخرج العذراء من خدرها ... وتأخذ الواحد من أمّهِ

وقال الفرزدق:

أخاف وراء القبر إن لم يُعافني ... أشدَّ من القبرِ التهاباً وأضيقا

لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النَّار مغلولَ القِلادةِ أزرقا

وقال الخليل بن أحمد:

وقبلكَ داوى الطبيبُ المريضَ ... فعاشَ المريضُ ومات الطبيبُ

فكن مستعدّاً لداعي الفنا ... فإن الَّذي هو آتٍ قريبُ

وقال التستري:

ويلٌ لمن لمْ يرحَم الله ... ومن تكونُ النّارُ مثواهُ

يا غفلتي من كل يومٍ مضى ... يُذكرني الموتَ وأنساهُ

كأنّما قد قيل في مجلسٍ ... قد كنتُ آتيهِ وأغشاهُ

صار البشيريُّ إلى ربِّهِ ... يرحمُنا الله وإياهُ

وقال محمود الورَّاق:

بقّيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما بقّى لك المالُ

القوم بعدك في حالٍ يسرّهمُ ... فكيفَ بعدهمُ حالتْ بك الحالُ

<<  <   >  >>