فهذا يخبر أن صاحبه ونفاسته في صدره منعاه من الاستمتاع بالنظر إلى شخصه وأكسباه الغيرة له على نفسه وله أيضاً في باب التعظيم إلفه والتقديم له على نفسه كلام إن لم يقبح من باب الإفراط والتكثير لم يسهل من باب التساهل والتقصير وهو:
جُعلتُ فداكَ إنْ صلُحتْ فداءً ... لنفسكَ نفسُ مثلِي أوْ وِقاءا
وكيفَ يجوزُ أنْ تفديكَ نفسِي ... وليسَ محلُّ نفسَيْنا سواءَ
وبلغني أن أعرابياً خلا بصاحبته فقيل له ما كان بينكما فقال ما زال القمر يزيّنها فلما غاب زيّنته فوضعت كفِّي على كفِّها فقالت مَهْ لا تُفسد فقلت والله ما يرانا إلاَّ الكواكب فقالت ويحك وأين مكوكبُها قال فارْفضضتُ والله عرقاً ولم أعد وبلغني أن العباس بن سهل الساعدي دخل على جميل وقد احتضر فقال له جميل بلِّغنا أتظنّ رجلاً عاش في الإسلام لم يزنِ ولم يسرق ولم يسفك دماً حراماً ناجياً من هول يوم القيامة قال العباس فقلت أي والله فمن ذلك قال إنِّي لأرجو أن تكونه قال فتبسَّمت وقلت أبعد إتيانك بثينة عشرين سنة فقال إنِّي في آخر يوم من أيام الدُّنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم إن كنتُ حدَّثت نفسي بحرامٍ منها قطُّ عمَّا وراء ذلك قال ثمَّ مات من يومه.
[الباب التاسع]
ليسَ منَ الظَّرفِ امتهانُ الحبيبِ بالوصفِ
من سامحته الأيام لمحابِّه ورُزق حسن الوفاء والمساعدة من أحبابه ما يجب عليه في حدود الظَّرف دون ما يجب عليه من رعاية حقوق الإلف أن يقابل نعم الله عليه بما يوجب المزيد فيها لديه فإن لم يفعل ذلك فلا ينبغي له أن يتعرض لأسباب المهالك وليعلم أنَّ وصف ما في صاحبه من الخصال المرتضاة مُغرٍى بمن علمها بالمشاركة له في هواه ولقد أحسن الَّذي يقول:
ولستُ بواصفٍ أبداً خليلاً ... أُعرِّضهُ لأهواءِ الرِّجالِ
وما بالي أشوِّقُ عينَ غيرِي ... إليهِ ودونهُ سترُ الحِجالِ
كأنِّي آمنُ الشٌّركاءَ فيهِ ... وآمنُ فيهِ أحداثَ الرِّمالِ
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
أصونُكَ أنْ أدلَّ عليكَ وهماً ... لأنَّ الظَّنَّ مِفتاحُ الغيوبِ
وما قصر علي بن محمد العلوي حيث يقول:
ربَّما سرَّنِي صدودكَ عنِّي ... وتنائيكَ وامتِناعُكَ منِّي
ذاكَ ألاَّ أكونُ مفتاحَ غيرِي ... وإذا ما خلوتُ كنتَ التَّمنِّي
وإذ قد دللنا على قبح وصف الخليل بما فيه من الخَلق والخُلق الجميل فلا حاجة بنا إلى دلالة على قبح الوصف لما حمل عليه نفسه من المسامحة بصاحبه والمسارعة إلى بلوغ محبَّته فإنَّ المحبوب ربما دعته الرأفة بمحبِّه أو الإشفاق عليه إلى أن يحمل نفسه على ما لا يوجبه حقُّ الهوَى عليه وعلى ما لم يوصله صاحبه منه وأن يدعه أليه تحقُّقاً بالرِّعاية لمن يهواه وتظرُّفاً بالسّياسة له إلى أكثر ما يتمنَّاه وإن لم يقع ذلك إلاَّ بالحمل على النَّفس والغضِّ منها فإذا كان وصف الخِلقة الَّتي لا يتهيَّأ نقلها ولا يعاب بها صاحبها ليس بجميل كان وصف الخلائق الَّتي قد سومح فيها أحرى أن يكون غير جميل.
ولعمري لقد أحسن جميل بن عبد الله بن معمر العذري حيث يقول:
هلِ الحائمُ العطشانُ مُسقًى بشُربةٍ ... منَ المزنِ تروِي ما بهِ فتُريحُ
فقالتْ فنخشَى إنْ سقيناكَ شربةً ... تُخبِّرُ أعدائِي بها فتبوحُ
إذنْ فأَباحتْني المنايا وقادَنِي ... إلى أجلِي عضبُ السِّلاحِ سفوحُ
لبئسَ إذنْ مأوَى الكريمةِ سرُّها ... وإنِّي إذنْ مِنْ حبِّكمْ لصحيحُ
أما قوله لبئس مأوى الكريمة سرُّها فكلام حسن وأهله وإنِّي إذاً من حبِّكم لصحيح فكلام قبيح أتراه إن صحا من حبِّها خبَّر النَّاس بسرِّها حتَّى يجعل عليه في كتمانه إيَّاه أنَّه مغرم بها. بلغني أن رجلاً قام بحضرة معاوية فقال: قبَّح الله المجوس بلغني أن أحدهم يتزوج بأُمِّه والله لو أُعطيت عشرة آلاف درهم أن أفعل ذلك ما فعلته، فلمَّا انصرف قال معاوية: ما له أسخن الله عينه أترى لو زيد على ذلك كان يفعل، ولكن يُتلقَّى هذا الكلام من جميلٍ باليدين ويحمل على الرأس والعينين إذا سمع كلام الشيخ امرئ القيس:
فلمَّا دنوتُ تسدَّيتُها ... فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرْ