ففاضَتْ عبرةٌ أشفقْتُ منها ... تسيلُ كأنَّ وابلها الفريدُ
فقالتْ قدْ بكيتَ فقلتُ كلاَّ ... وهلْ يبكي منَ الشَّوقِ الجليدُ
ولكنِّي أصابَ سوادَ عيني ... عُويدُ قذًى له طرَفٌ حديدُ
فقالوا ما لدمعتها سواءٌ ... أكلْتَيْ مُقلتيكَ أصابَ عودُ
فقبلَ دموعِ عينكَ خبَّرتْنا ... بما جمجمتَ زفرتُكَ الصَّعودُ
وقال آخر:
شيَّعتهمْ فاسترابوني فقلتُ لهمْ ... إنِّي بُعثتُ معَ الأجمالِ أحدوها
قالوا فما نفسٌ يعلو كذا صعَداً ... أمْ ما لعينكَ ما ترقا مآقيها
قلتُ التَّنفُّسُ للآدابِ نحوكمُ ... وماءُ عينيَ جارٍ من قذًى فيها
وأنشدتني ستيرة العصيبية:
ونادى بالتَّرحُّلِ بعضُ صحبي ... فرحتُ ومُقلتي غرقى بماها
فراحوا والشَّقيُّ له ديونٌ ... وأشيا من حوائجَ ما قضاها
فأرخيْتُ العمامةَ دونَ صحبي ... علَى عيني وقلتُ جرى قذاها
وما لي حاجةٌ إلاَّ ببكرٍ ... وما ذنبي علَى أحدٍ سواها
فقالوا من ضِراري كيفَ بكرُ ... وكيفَ تراكَ ترجو أن تراها
فقلتُ اللهُ حمَّ فراقَ بكرٍ ... فأرجو أنْ يحمَّ لنا لِقاها
ولبعض أهل هذا العصر:
وكمْ ليلةٍ قد بتُّ أرقبُ صبحها ... وأنجمها في الجوِّ ما تتزحزحُ
ويُمنايَ فوقَ القلبِ تُبردُ حرَّةٌ ... ويُسرايَ تحتَ الخدِّ والعينُ تسفحُ
فأصبحتُ مجهوداً عميداً منَ الهوَى ... وقد كادَ قلبي بالصَّبابةِ يطفحُ
وما علمَ الواشونَ فضلاً عنِ العِدى ... بسرٍّ وما مثلي بسرِّكَ بُفصحُ
فإنْ كانَ هذا القولُ عذراً قبلتهُ ... وإن كانَ تعذيراً فمثلكَ يصفحُ
[الباب الرابع والأربعون]
مَنْ غُلب صبرهُ ظهرَ سرُّهُ
ذكروا أنَّ سكينة بنت الحسين ركبت في جواريها فمرَّت بعروة بن أُذينة الليثي وهو يغنِّي فقالت لجواريها: من الشَّيخ؟ قالوا: عروة فعدلت نحوه ثمَّ قالت: يا أبا التَّمام أنت تزعم أنَّك لم تعشق قطّ وأنت تقول:
قالتْ وأبثثْتُها وجدِي فبحتُ بهِ ... قدْ كنتَ عندِي تحتَ السِّترِ فاستترِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حولِي فقلتُ لها ... غطَّى هواكِ وما ألقَى علَى بصرِي
كلُّ مَن ترى حولي مِن جواريَّ أحرارٌ إن كان خرج هذا الكلام من قلبٍ سليمٍ قطُّ.
وقال آخر:
وإنْ أُخفِي حبَّ الحاجبيِّ فطالَما ... وإنْ أُبدهِ يوماً فقدْ غُلبَ الصَّبرُ
أقولُ وعينِي تستهلُّ بمائِها ... أمَا ليَ في هذا وأمثالهِ أجرُ
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
وعيَّرَها الواشونَ أنِّي أُحبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها
فإنْ أعتذرْ منها فإنِّي مكذَّبٌ ... وإنْ تعتذرْ يُرددْ عليها اعتذارُها
وقال الضحاك بن عقيل:
يقولونَ مجنونٌ بسمراءَ مولعٌ ... ألا حبَّذا جنٌّ بها وولوعُ
وما زلتُ أُخفِي حبَّ سمراءَ منهمُ ... وتعلمُ نفسِي أنَّه سيشيعُ
ولا خيرَ في حبٍّ يكونُ كأنَّهُ ... شغافٌ أجنَّتهُ حشاً وضلوعُ
وقال الحسين بن وهب:
قدْ كتمتُ الهوَى بمبلغِ جُهدي ... فبدَا منهُ غيرُ ما كنتُ أُبدي
فخلعتُ العذارَ فليعلمِ النَّاسُ ... بأنِّي إيَّاكِ أُصفِي بودِّي
وأنشدني أحمد بن يحيى:
ولي كبدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعُني ... بها كبداً ليستْ بذاتِ قروحِ
أباها عليَّ النَّاسُ لا يشترُونَها ... ومَنْ يشترِي ذا علَّةٍ بصحيحِ
وقال معاذ ليلَى:
وما زلتُ أعلُو حبَّ ليلَى فلمْ يزلْ ... بيَ النَّقضُ والإبرامُ حتَّى علانِيا
وأشهدُ عندَ اللهِ أنِّي أُحبُّها ... فهذا لها عندِي فما عندَها لِيا
قضَى اللهُ بالمعروفِ منها لغيرِنا ... وبالشَّوقِ منها والتَّصابِي قضَى لِيا
فلوْ كنتُ أعمَى أخبطُ الأرضَ بالعصَا ... أصمَّ فنادتْني أحببتُ المُناديا
خليليَّ إلاَّ تبكِيا ليَ أستعنْ ... خليلاً إذا أنفدتُ دمعِي بكَى لِيا
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لامرأة من خثعم:
وإنْ تسألُونيَ مَنْ أُحبُّ فإنَّني ... أُحبُّ وبيتَ اللهِ كعبَ بنَ طارقِ