للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقبليَ أبكَى كلَّ مَنْ كانَ ذا هوًى ... هتوفُ البواكِي والدِّيارُ البلاقعُ

وهنَّ علَى الأطلالِ مِنْ كلِّ جانبٍ ... نوائحُ ما تخضلُّ منها المدامعُ

مزَبْرَجةُ الأعناقِ نمرٌ ظهورُها ... مخطَّمةٌ بالدُّرِّ خضر روائعُ

ومِنْ قطعِ الياقوتِ صِيغتْ عقودُها ... خواضبُ بالحنَّاءِ منها الأصابعُ

وأحسن أيضاً الَّذي يقول:

وقدْ كدتُ يومَ الحزنِ لمَّا ترنَّمتْ ... هتوفُ الضُّحى محزونةً بالتَّرنُّمِ

أموتُ لمبْكاها أسًى إنَّ لوعَتي ... ووجدِي بسُعْدَى قاتلٌ لي فاعلمِ

فلوْ قبلَ مبْكَاها بكيتُ صبابةً ... بسُعدَى شَفيتُ النَّفسَ قبلَ التَّندُّمِ

ولكنْ بكتْ قبلِي فهيَّجَ لي البُكا ... هواها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمُ

وقال حميد بن ثور:

وما هاجَ هذا الشَّوقُ إلاَّ حمامةٌ ... دعتْ ساقَ حرٍّ نوحةً وترنُّما

بكتْ شجوَ ثكلَى قدْ أُصيبَ حميمُها ... مخافةَ بينٍ يتركُ الحبلَ أجذَما

فلمْ أرَ مثلي شاقهُ صوتُ مثلِها ... ولا عربيّاً شاقهُ صوتُ أعجَمَا

وقال آخر:

يهيجُ عليَّ الشَّوقَ نوْحُ حمامةٍ ... دعتْ شجوها في إثر إلفٍ تشوُّقا

دعتْ فبكتْ عينا محبٍّ لصوتِها ... وفاضَ لها ماءُ الهوَى فترقرقا

يلذُّ بها الرَّائي جناحاً مولَّجاً ... ومتْناً سماويّاً من اللَّونِ أزرقا

خفضتُ إليها القلبَ حتَّى تشرَّبتْ ... حلاوتَها أحشاؤهُ فتشوَّقا

أقولُ لها نوحي أُعنْكِ ولم أكنْ ... لأُسعدَ بالأمسِ الحمامَ المطوَّقا

ولبعض أهل هذا العصر:

أرى نوحُ الحمامِ يشوقُ قوماً ... وفي نوحِ الحمائمِ لي عزاءُ

إذا بكتِ الحمائمُ وهيَ وحشٌ ... وأزعجها التفرُّقُ والجفاءُ

فما جزعَ الأنيسِ منَ التَّصابي ... إذا امتنعَ التَّزاوُرَ واللِّقاءُ

[الباب الرابع والثلاثون]

من امتحن بالمفارقة والهجر اشتغل فكره بالعيافة والزَّجر

سبيل كلّ مشغوف بشيء ما كان أن يحذر عليه ما دام في قبضته ويرجو رجوعه إذا خرج عن يده فالمحبُّ ما دام مقيماً مع محبوبه فخواطره موقوفةٌ على الحذر عليه من الزوال وفكره مرتهنةٌ بالخوف من تغيّر الحال فإذا فارق محبوبه وافتقد مطلوبه اشتغلت خواطره بتأميل أوبته كاشتغالها بمحاذرة فرقته إذ هو غير خال من الأحوال فتراه حينئذ يتيامن بالسَّوانح حسب تشاؤمه بالبوارح وقد قالت الشعراء في كلّ ذلك ونحن إن شاء الله نذكر من أقاويلهم حسب ما يحتمله الباب إذ كنَّا غير متجاوزين لما شرطناه في صدر الكتاب.

قال عبد الله بن قيس الرقيات:

بشَّرَ الظَّبيُ والغرابُ بسُعدى ... مرحباً بالذي يقولُ الغرابُ

قالَ لي إنَّ خيرَ سُعدى قريبٌ ... قدْ أنى أنْ يكونَ منهُ اقترابُ

قلتُ أنَّى تكونُ سعدى قريباً ... وعليها الحصونُ والأبوابُ

حبَّذا الرِّيمُ والوشاحانِ والقصْ ... رُ الَّذي لا تنالهُ الأسبابُ

فعسى أنْ يُؤتِّىَ الله أمراً ... ليسَ في غيِّهِ علينا ارتقابُ

وقال آخر:

نعبَ الغرابُ برؤيةِ الأحبابِ ... فلذاكَ صرتُ أليفَ كلِّ غرابِ

لا شُكَّ ريشكَ إذْ نعبْتَ بقربهمْ ... وسقيتَ مُزنَ صبيبِ كلِّ سحابِ

وسكنتَ بينَ حدائقٍ في جنَّةٍ ... محفوفةٍ بالنَّخلِ والأعنابِ

وقال الراعي:

جرى يومُ رُحنا عامدينَ لأهلِها ... عُقابٌ فقالَ القومُ مرَّ سنيحُ

وكرَّ رجالٌ منهمُ وتراجعوا ... فقلتُ لهمْ طيرٌ إليَّ بريحُ

عقابٌ بأعقابٍ من الدَّارِ بعدما ... مضتْ نيَّةٌ تُقصي المحبَّ طروحُ

وقالوا نراهُ هُدهداً فوقَ بانةٍ ... هدًى وبيانٌ والطَّريقُ تلوحُ

وقالوا دمَ دامتْ مودَّةٌ بيننا ... ودامَ لنا صفوٌ صفاهُ صريحُ

وقال جران العود:

جرى يومَ جئنا بالجِمالِ نزفُّها ... عقابٌ وشحَّاجٌ من البينِ يبرحُ

فأمَّا العقابُ فهو منها عقوبةٌ ... وأمَّا الغرابُ فالغريبُ المطرَّحُ

<<  <   >  >>