إلاَّ أنَّ امرء القيس لم يقل لم صار النَّهار وإن لم يكن أمثل من اللَّيل والقلوب إليه أميل منها إلى اللَّيل كما بيَّنه الطرمّاح ومن سرق معنى فزاد فيه احتمل له جرم سرقته لموضع زيادته ومن أحسن ما قيل في ترك النَّوم قول مسلم بن الوليد:
لمَّا التَقَيْنا افْترعْنا في تعاتُبِنا ... منَ الحديثِ ومِنْ لذَّاتهِ العُذرا
قالتْ أأقررتَ بالإجرامِ قلتُ نعمْ ... إنْ كانَ جرمٌ علَى الإقرارِ مُغتفرا
لمْ تُغمضِ العينُ مذْ عُلِّقتُ حبُّكمُ ... إلاَّ إذا خالستْها عينكِ النَّظرا
ولقد أحسن بشار بن برد حيث يقول:
كأنَّ جفونهُ سُملتْ بشوكٍ ... فليسَ لنومهِ فيها قرارُ
جفتْ عيني عنِ التَّغميضِ حتَّى ... كأنَّ جفونها عنها قِصارُ
أقولُ وليلَتي تزدادُ طولاً ... أما للَّيلِ بعدهمُ نهارُ
وقال آخر:
وعينٍ لنا من ذكرِ صعبةَ واكفٍ ... إذا غاضها كانتْ سريعاً جُمومها
تنامُ قريراتُ العيونِ وبينها ... وبينَ حجابَيْها قذًى لا يريمُها
وقال آخر:
لعلَّ جفوناً فرَّقَ البينُ بينها ... وبينَ الكرى تحظى بطعمِ رُقادِ
ويُحسرُ دمعٌ ما يزالُ كأنَّهُ ... علَى الخدِّ مُنهلاًّ تدافعُ وادِ
كأنَّ السَّواري والغوادي تكلَّفتْ ... لهُ بسواري أدمعٍ وغوادي
وقال آخر:
إذا زُيِّنتْ بالدُّرِّ يوماً فإنَّها ... تُزيِّنهُ والدُّرُّ ليسَ يزينُها
أبيتُ طوالَ الدَّهرِ أبكي لذكرها ... بعينِ محبٍّ ما تلاقى جفونها
وأقطعُ أيَّامي بهمٍّ وفكرةٍ ... أُعلِّلُ نفساً قد براني حنينها
وأحفظها في الغيبِ حتَّى كأنَّني ... حلفتُ لها باللهِ أن لا أخونها
وقال جرير:
ألا حيِّ الدِّيارَ بسُعدَ إنِّي ... أحبُّ لحبِّ فاطمةَ الدِّيارا
أرادَ الظَّاعنونَ ليُحزنوني ... فهاجوا صدعَ قلبيَ فاستطارا
أبيتُ اللَّيلَ أرقبُ كلَّ نجمٍ ... تعرَّضَ حيثُ أنجدَ أو أغارا
يهيمُ فؤادهُ والعينُ تلقَى ... منَ العبراتِ جولاً وانحدارا
وقال أيضاً:
نامَ الخليُّ وما رقدْتُ لحبِّكُمْ ... ليلَ التَّمامِ تأرُّقاً وسهودا
وإذا رجوتُ بأنْ تُقرِّبكِ النَّوى ... كانَ القريبُ لما رجوْتُ بعيدا
وقال الراعي:
كفاني مُقاساةَ الكرى وكفيْتُهُ ... كلاءُ النُّجومِ والنُّعاسُ معانقُهْ
فباتَ يُريهِ عرسهِ و..... ... وبتُّ أُراعي النَّجمَ أينَ مخافقُهْ
وقال امرؤ القيس:
أعنِّي علَى الأشجانِ والذِّكراتِ ... يبتْنَ علَى ذي الهمِّ مُعتكراتِ
ظللْتُ ردائي فوقَ رأسيَ قاعداً ... أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي
بليلِ التَّمامِ أوْ وُصلْنَ بمثلهِ ... مُقايسةً أيَّامها نكراتِ
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
أرقْتُ وطالتْ ليلتي بأبانِ ... لبرقٍ سرى بعدَ الهدوِّ يماني
فيا عمُّ عمَّ السُّوءِ فرَّقْتَ بيننا ... ونحنُ جميعاً شملُنا متداني
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
كتبَتْ علَى فصٍّ لخاتَمها ... منْ ملَّ من أحبابهِ رقدا
فكتبْتُ في فصِّي ليبلغها ... من نامَ لم يشعرْ بمنْ سهدا
قالتْ يعارضني بخاتمهِ ... والله لا كلَّمتهُ أبدا
وقال آخر:
ولي مقلةٌ عهدها بالمنامِ ... بعيدٌ وبالدَّمعِ عهدٌ قريبْ
يحارُ إذا زادَ طرفي المنامُ ... كما حارَ في الحيِّ ضيفٌ غريبْ
[الباب الحادي والأربعون]
[من غلب عزاه كثر بكاه]
أمَّا أهل هذا الباب فقد انفردوا بأمرٍ يقوم لهم ببعض العذر على أنَّ ذلك الأمر الَّذي يعذرهم هو بعينهِ يدلُّ على نقيصتهمْ فأما جهته المحمودة فهي وصف الحال بالدَّمع لا يمكن فيها من التَّصنُّع ما يمكن في الصِّفات بالألسن وأما جهته المذمومة وهي أنَّ امتناع الدَّمع من الجريان أوَّل على تظاهر ألم الأشجان لعلَّةٍ سنذكرها في الباب الثاني ولا نألو إن شاء الله أن نذكر من هذا الباب أحسن ما قيل فيه على النقص الَّذي يلحق قائليه ثمَّ نذكر الحال التَّامة في الباب الَّذي يليه.
أنشدني أبو عبادة البحتري لنفسه: