وكادَ غداةَ سارَ الحيُّ يُبدي ... ضميرَ القلبِ تشحاجُ الغرابِ
غدا بي شامتاً وغدوتُ صبّاً ... يُريني ما بهِ وأُريهِ ما بي
يضاحكُني فيضحكُ حينَ أبكي ... كذلكَ دابهُ أبداً ودابي
فلوْ أنَّ الغرابَ يرقُّ يوماً ... لرقَّ لطولِ وجدي واكتئابي
لعلَّ الدَّهرَ يقلبُ حالتيهِ ... فإنَّ الدَّهرَ حولٌ ذو انقلابِ
فيقلقَهُ اشتياقٌ وارتياحٌ ... ويوحشَهُ اغترابٌ كاغترابي
[الباب الخامس والثلاثون]
في حنين البعير المفارق أُنسٌ لكلِّ صبٍّ وامقٍ
قال مرة بن عقيل:
لَعمري لقدْ هاجتْ عليَّ حمامةٌ ... قُلوصَ العباديينَ ليلةَ حلَّتِ
تعدَّتْ لها واللَّيلُ مُلقٍ رِواقهُ ... فجاوبْنَها حتَّى مللنَ وملَّتِ
وقال تميم بن كميل الأسدي:
يحنُّ قعودي بعدما كمُلَ السُّرى ... بنخلةَ والضُّمرُ الحراجيجُ ضُمَّرُ
يحنُّ إلى وردِ الحشاشةِ بعدما ... ترامى بهِ خرقٌ من البيدِ أغبرُ
وباتَ يجوبُ البيدَ واللَّيلُ مائلٌ ... يثنَّى لتعريسٍ يحنُّ وأزفرُ
وبي مثلُ ما يلقى منَ الشَّوقِ والهوَى ... علَى أنَّني أُخفي الَّذي بي وأُظهرُ
فقلتُ لهُ لمَّا رأيتُ الَّذي بهِ ... كلانا إلى وردِ الحشاشةِ أصورُ
فليتَ الَّذي ينسى تذكُّرَ إلفهِ ... وسرباً بأحواضِ الحشاشةِ يُنحرُ
وقال أيضاً:
يحنُّ قعودي ذو الحياطِ صبابةً ... بمكَّةَ وهناً من تذكُّرهِ نجدا
تذكَّرَ نجداً موهناً بعدما انطوتْ ... ثميلتهُ وازدادَ عن إلفهِ بُعدا
تذكَّرَ نجداً حادياً بعدَ قادمٍ ... ولا يلبثُ الشَّوقانِ أن يصدعا الكِبدا
فقلتُ لهُ قد هجتَ بي شاعفَ الهوَى ... أصابَ حمامُ الموتِ أضعفنا وجدا
وقال آخر:
أيضربُ جوْنٌ أنْ تحنَّ غريبةٌ ... وما ذنبُ جونٍ أن تحنَّ الأباعرُ
يقولونَ لا تنظرْ وتلكَ بليَّةٌ ... بلى كلُّ ذي عينينِ لا بدَّ ناظرُ
وقال آخر:
باتتْ تشوِّقُني برجعِ حنينها ... وأزيدها شوقاً برجعِ حنيني
نِضْويْنِ مُقترنيْنِ بينَ تِهامةٍ ... طويا الضُّلوعَ علَى جوًى مكنونِ
لو خبَّرتْ عنِّي القَلوصُ لخبَّرتْ ... عن مُستقرِّ صبابةِ المحزونِ
وقال عروة بن حزام:
هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوَى ... وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ
فلو تركتْني ناقتي من حنينها ... وما بيَ من وجدٍ إذنْ لكفاني
فإن تحملي شوقي وشوقكِ تُثْقلي ... وما لكِ بالحِملِ الثَّقيلِ يدانِ
وقال آخر:
تحنُّ قلوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى ... بعينيَّ أنِّي لستُ موردَها نجدا
ولا وارداً أمواهَ أجْبِلةِ الحمى ... وإنْ زهقَتْ نفسي علَى وردِها جُهدا
وقال النجاشي:
رأتْ ناقتي ماءَ الفراتِ وذوقهُ ... أمرُّ منَ السُّمِّ الذُّعافِ وأمقرا
وريعَتْ منَ العاقولِ لمَّا رأتْ بهِ ... صياحَ النَّبيطِ والسَّفينِ المقيَّرا
وحنَّتْ حنيناً موجعاً هيَّجتْ به ... فؤاداً إلى أنْ يدركَ الرَّبْوَ أصورا
فقلتُ لها بعضَ الحنينِ فإنَّ بي ... كوجدكِ إلاَّ إنَّني كنتُ أصبرا
وقال آخر:
حنَّتْ وما عقلتْ فكيفَ إذا بكى ... شوقاً يُلامُ علَى البُكا منْ يعقِلُ
ذكرتْ قُرى نجدٍ فأقلقها الهوَى ... وقُرى العراقِ وليْلهُنَّ الأطولُ
وكأنَّما يُجنى لها ولركبها ... بنطافِ دجلةَ والفراتِ الحنظلُ
وتمرُّ من لُججِ السَّرابِ موارقاً ... والخرقُ أغبرُ والقتامُ مجلِّلُ
فغدتْ وأيدي الصُّبحِ تلمعُ في الدُّجى ... كالبيضِ تُغمدُ تارةً وتُسلَّلُ
وقال جرير:
أرى ناقتي تشكو طروقاً وشاقها ... وميضٌ إلى ذاتِ السَّلاسلِ لامعُ
فقلتُ لها حنِّي رُويداً فإنَّني ... إلى أهلِ نجدٍ من تهامةَ نازعُ
فلمَّا رأتْ أنْ لا قُفولَ وإنَّما ... لها من هواها ما تجنُّ الأضالعُ
تمطَّتْ لمجدولٍ طويلٍ فطالعتْ ... وماذا منَ البرقِ اليماني تُطالعُ
وقال آخر:
وحنَّتْ قَلوصي آخرَ اللَّيلِ حنَّةً ... فيا روعةً ما راعَ قلبي حنينُها