ولمْ تزلِ الخواطرُ عنكَ تُنبِي ... بأنَّكَ لا تدومُ علَى وفائكْ
فلوْ كانت عهودكَ لم تُغيَّرْ ... ولمْ يبدُ التَّكدُّرُ في صفائكْ
وفَيتَ بما ابتدأْتَ بهِ ولكنْ ... أظنُّكَ قدْ ندمتَ علَى ابتدائكْ
فإنْ تكُ قدْ ندمتَ علَى اصطِفائي ... فإنِّي ما ندمتُ علَى اصطفائكْ
وإنْ تكُ لمْ تخُنْ فلأيِّ شيءٍ ... تغيَّرَ ما عهِدْنا مِنْ إخائكْ
وله أيضاً في نحو ذلك:
أَمِنتُ عليكَ صرفَ الدَّهرِ حتَّى ... أناخَ بغدرهِ ما لمْ أُحاذرْ
وجسَّرنِي وفاؤكَ لي إلى أنْ ... أذاقَنِي الرَّدى غبُّ التَّجاسرْ
فجئتُكَ شاكراً وأقلُّ حقِّي ... إذا أحسنتَ أنْ ألقاكَ عاذرْ
وحسبكَ رتبةً لكَ مِنْ صديقٍ ... أتاكَ بعاتبٍ في زيِّ شاكرْ
ولغيره في نحوه أيضاً:
وكذَّبتُ طرفِي عنكِ والطَّرفُ صادقٌ ... وأسمعتُ أُذنِي منكِ ما ليسَ يُسمعُ
فلا كمَدٌ يَبلَى ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطمعُ
ولمْ أسكنِ الأرضَ الَّتي تسكُنينَها ... لئلاّ يقولُوا صابرٌ ليسَ يجزعُ
وربَّما ضعف الخارج عن حال العشق الَّتي توجب طاعة المحبوب على المحب إلى حالة الوله التي توجب الاعتراض عليه لفرط الميل منه إليهِ فيرجع من قريبٍ وينقاد صاغراً إلى كلِّ ما يريده المحبوب.
وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:
عَلامَ وقدْ أذبتَ القلبَ شوقاً ... تصدُّ وقدْ عزمتَ علَى ارتِحالِ
ولمْ أكُ قبلَ ذاكَ أتيتُ ذنباً ... سِوى أنِّي نهيتُكَ عنْ خصالِ
أردتُ بذاكَ أنْ تُدعَى رشيداً ... إذا افتضحَ المعارفُ بالمقالِ
وألاَّ تُبتلَى بدنيءِ قومٍ ... فيكثرَ فيكَ مِنْ قيلٍ وقالِ
فيسمعهُ المصادقُ والمُعادِي ... فتندمَ عندَ مُفتخرِ الرِّجالِ
وما كلٌّ يصدِّقُ فيكَ قولِي ... فكنتَ تكونُ فوقَ ذُرى المعالِي
فصنْ نفساً عليَّ أعزَّ منِّي ... وقاكَ السُّوءَ أهلِي ثمَّ مالِي
وأيقنْ أنَّني لمْ آتِ ذنباً ... ودونكَ ما هويتُ منَ الفعالِ
تجدْنِي راضياً بهواكَ طوْعاً ... لأمركَ في الحرامِ وفي الحلالِ
فواللهِ العظيمِ لَوَ انَّ قلبِي ... عصاكَ هممتُ عنهُ بانتقالِ
أقِلْني تدَّخرْ في الحشرِ أجراً ... إذا احتاجَ المُقيلُ إلى المقالِ
والعاشق ما دامت حال العشق مالكة يتوهَّم ألاّ غاية بعدها ولا رتبة فوقها ويرى أن اعتراض المحب على محبوبه إنَّما هو من نقض حاله في قلبه وليس الأمر بحيث علِيَ بل هو بضده.
ولقد أحسن علي بن الرومي وقوله:
يا أخِي أينَ ريعُ ذاكَ الإخاء ... أينَ ما كانَ بينَنَا مِنْ صفاءِ
أنتَ عَيني وليسَ مِنْ حقِّ عَيْني ... طبقُ أجفانها علَى الأقذاءِ
[الباب الحادي عشر]
مَنْ وفَى الحبيبُ هانَ عليهِ الرَّقيبُ
وإنَّما يغلظ أمر الرقيب على من يمتحن بمفارقة الحبيب فأما من غلبه الفراق وملكه الإشفاق وأذاع سره الاشتياق قلَّ اكتراثه بمن يرتقبه بل سهل عليه ألاّ يعاين من يحبّه إذا وثق بقربه منه وأمن من إعراضه عنه وربَّما كانت غيبة الحبيب أيسر من حضوره مع الرقيب وهذا شيء تختلف فيه الآراء علَى حسب غلبات الأهواء.
قال ابن الدمينة:
يقولونَ قصِّرْ عنْ هواها فقدْ وعتْ ... ضغائنَ شبَّانٌ عليكَ وشيبُ
وما إنْ تُبالِي سخطَ مَنْ لا تحبُّهُ ... إذا نصحتْ ممَّن تحبُّ جُيوبُ
وقال أبو تمام الطائي:
ما شئتَ مِنْ منطقٍ أديبِ ... فيهِ ومِنْ منظرٍ أرِيبِ
لمَّا رأى رقبةَ الأعادِي ... علَى معنًّى بهِ كئيبِ
جرَّدَ لِي مِنْ هواهُ نُصحاً ... صارَ رقيباً علَى الرَّقيبِ
وقال أيضاً:
مِنْ قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مهلكَتِي ... ووصلِ ألحاظهِ تقطيعُ أنفاسِي
رُزقتُ رقَّةَ قلبٍ منهُ نغَّصها ... مُنغِّصٌ مِنْ رقيبٍ قلبهُ قاسِي
وقال بعض الفصحاء:
طَلْحٌ ولكنَّا نرَى الح ... يَّاتِ رُقطاً في خِلالهْ
يمنعْنَنا أنْ نستظلَّ ... منَ الهواجرِ في ظلالهْ
وقال الأخطل: