للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فتسخنُ عينهُ عندَ التَّنائي ... وتسخنُ عينهُ عندَ التَّلاقِ

وهذه المكاره كلُّها أثمار تلك الملاذّ الَّتي قبلها وذلك أن من هويَ إنساناً فإنما قصاره حين يهواه أن يعيد نظره إليه فيروى من شخصه ويستمتع من لفظه فإذا تهيَّأ ذلك له ازداد وجده به أضعافاً على ما كان في قلبه ثمَّ تدعوه نفسه بعد ذلك إلى كثرة التَّلاقي والمواصلة وتنبسط للمسائلة والمشاورة وهو في كل هذه الأحوال مشغول بحظوظ نفسه غير فارغ معها لصبابة غيره بل يحبُّ أن يكون إلفه سمحاً بالمواصلة لمن علم أنَّه يودُّه ليكون ذلك سبباً له إلى مواصلته وتسهيلاً له السَّبيل إلى معاشرته فإذا تمكَّن ودُّه من نفس محبوبه فاستشعر الوفاء له ودفع قياده إليه فلم يعترض شيء من أمره عليه لكسبه ذلك ضنّاً به وصيانة له.

وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:

إذا ازدادَ رعياً للهوى زِدْتهُ هوًى ... وضنِّي به مقدارَ هذين يضعُفُ

قفوه أمني زائدٌ في تخوُّفي ... ولا حظَّ لي في أن يزولَ التَّخوُّفُ

فلا يتشاغلْ عاذلٌ بنصيحتي ... فمثلي علَى إرشادهِ لا يوقَّفُ

ولا يرْثِ لي في ذلَّتي وتواضُعي ... فإنِّي بهذا الذُّلِّ أزهى وأشرفُ

فما ظنُّك بترادف حالين كلُّ واحدة منهما سبب لصاحبتها متى يكون انقضاؤهما أم كيف يتوهَّم زوالهما لا سيَّما وإحداهما قد كانت قوَّتها في نفسها منميةً لها قبل أن تبتدئ الأخرى في معونتها فإذا انتهت الحال إلى حيث وصفنا فرغ المحبُّ حينئذ من المطالبة بحظوظ نفسه وتشاغل بالمطالبة بحقوق إلفه فأنف له من معاشرة غيره بل صانه وأشفق عليه من مخالطته هواه وعاد إلى ما كان يحسب له به مكرمةً من برِّه به فجعله عليه هُجنة وأوهم نفسه أنَّ ذلك الَّذي ناله غيره ممنوع من كلِّ من سأله ألم تسمع الَّذي يقول:

فلا تُكثري قولاً منحتكِ وُدَّنا ... فقولُكِ هذا في الفؤادِ مُريبُ

تَعُدِّينَ ما أوليتني منكِ نائلاً ... وللقابسِ العجلانِ فيكِ نصيبُ

وفي نحو هذا المعنى يقول الآخر:

تمتَّعْ بها ما ساعفَتْكَ ولا تكنْ ... عليكَ شجاً تُؤذيكَ حينَ تبينُ

وإنْ هي أعطتكَ اللِّيانَ فإنَّها ... لآخرَ من خُلاَّنها ستلينُ

فحينئذٍ يظنُّ المحبُّ ما لا يخشاه ويتمنَّى ما لا يهواه ويفسد عليه أمر دينه ودنياه وهذه حال الوله الَّذي ذكرناه.

وقال بعض الأدباء في نحو ذلك:

يُسيءُ من كثرةِ الظَّنِّ الظُّنونَ بها ... حتَّى يظنَّ ظنوناً ليسَ يخشاها

ومرتبة العشق الَّتي هي في هذا الطَّريق إلى هذه المرتبة توجب على المحب طاعة المحبوب في كلِّ ما أحبَّه حتَّى لا يعصيَ له أمراً ولا يُقبِّح له فعلاً.

وفي مثل ذلك يقول بعضهم:

كلُّ شيءٍ منكَ في عيني حسنْ ... ونصيبي منكَ همٌّ وحَزنْ

ويقول الآخر:

صممتُ عنِ الأصواتِ من غيرِ وقرةٍ ... وإنِّي لأدنى صوتها لَسميعُ

شفيعي إليها قلبُها إنْ تعتَّبتْ ... وقلبي لها فيما عتبتُ شفيعُ

وقد ظفرَتْ منِّي بسمعٍ وطاعةٍ ... وكلُّ مُحبٍّ سامعٌ ومُطيعُ

ويقول الآخر:

يقرُّ بعيني ما يقرُّ بعينِها ... وأحسنُ شيءٍ ما بهِ العينُ قرَّتِ

كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصم لو تمشي بها العصم زلتِ

صفُوحاً فما تلقاكَ إلاَّ بخيلةً ... فمَنْ ملَّ منها ذلكَ الوصلَ ملَّتِ

وبلغني عن الحسن بن سهل الكاتب أنَّه قال: أما أنا فإذا أحببت إنساناً نظرت إلى فعله ففعلت مثله فإنه إن أبغضني أبغض نفسه فإذا ابتدأ أهل العشق يرتفعون عن هذه الحال تكشَّف لهم عوار هذه الأفعال حالاً بعد حالٍ.

ففي مثل ذلك يقول أبو عبادة البحتري:

يُريِّبُني الشَّيءُ تأتِي بهِ ... وأُكبرُ قدركَ أنْ أستَريبا

وأكرهُ أنْ أتمادَى علَى ... سبيلِ اغترارٍ فألقَى شَعوبا

ولا بدَّ مِنْ لومةٍ أنتَحي ... عليكَ بها مُخطئاً أوْ مُصيبَا

سأصبرُ حتَّى أُلاقِي رضاكَ ... إمَّا بعيداً وإمَّا قريبَا

أُراقبُ رأيكَ حتَّى يصحَّ ... وانظُرُ عطفكَ حتَّى يثُوبا

ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:

بدأْتَ بموعدٍ ورجعتَ عنهُ ... وكنتُ أعدُّ وعدكَ مِنْ عطائكْ

<<  <   >  >>