للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال فما يهمُّني إن قال كان يقلع عينيه ولا يرى أحبابه الظَّاعنين فمن يقع به الفراق اضطراراً ويترك هو الوداع اختياراً فهو أحسن حالاً ممَّن يضطر إلى الأمرين جميعاً فإن اجتماع الهجر والفراق يتلف مهجة المشتاق.

وفي مثل ذلك يقول البحتري:

عدتْنا عوادِي الحبِّ عنها وزادَنا ... بها كلَفاً أنَّ الوداعَ علَى عتبِ

ولي ظمأٌ لا يملكُ الماءُ دفعهُ ... إلى نهلةٍ مِنْ ريقها الخصر العذبِ

وفي نحوه يقول أبو تمام:

أنأياً واجتناباً أيُّ صبرٍ ... معَ البلوَى يعرِّسُ بين ذينِ

ألمْ يُقنعكَ فيهِ الهجرُ حتَّى ... جمعتَ لقلبهِ هجراً ببينِ

وعلى أنَّ من المحبوبين من يدعوه حضور الفراق إلى الحرص على التَّوديع والتَّلاق فيكون وقوع النَّوى سبباً لاستخراج ما في نفسه من الضِّغن.

فمن ذلك قول أبي تمام:

أعرضتْ برهةً فلمَّا أحسَّتْ ... بالنَّوى أعرضتْ عنِ الإعراضِ

نظرتْ فالتفتُّ منها إلى أح ... لى سوادٍ رأيتهُ في بياضِ

ومنه قول الآخر:

ألمْ ترَ قيسٌ كلُّها أنَّ عزَّها ... غداةَ غدٍ عن دارهِ الدَّهرَ ظاعنُ

هُنالكَ جادتْ بالدُّموعِ موانعُ ال ... عيونِ وسُلَّتْ بالفراقِ الضَّغائنِ

وقال آخر:

عشيَّةَ أدعُو مُسعدي فلمْ أجدْ ... إلى حرِّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ مُسعدا

عشيَّةَ زمُّوا للفراقِ جِمالهمْ ... فلمْ ترَ إلاَّ واضعاً في يدي يدا

وقال آخر:

فلا أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها ... وأدمعُها يُذرينَ حشوَ المكاحلِ

تمتَّعْ بذا اليومِ القصيرِ فإنَّه ... رهينٌ بأيَّامِ الشُّهورِ الأطاولِ

وقال آخر:

أقولُ لمُقلَتي لمَّا التقينا ... وقدْ شرقتْ مآقيها بماءِ

خُذي لي اليومَ مِنْ نظرٍ بحظٍّ ... فسوفَ تُوكَّلينَ إلى البكاءِ

وقال آخر:

أقولُ لهُ يومَ ودَّعتهُ ... وكلٌّ بعبرتهِ مُبْلِسُ

لئنْ رجعتْ عنكَ أجسامُنا ... لقدْ سافرتْ معكَ الأنفسُ

وأنشدنا أحمد بن يحيى:

إنَّ الظَّعائنَ يومَ جوِّ سويقةٍ ... أبكينَ عندَ فراقهنَّ عيونا

غيَّضنَ مِنْ عبراتهنَّ وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ منَ الهوَى ولقينا

وقال جرير:

ودِّعْ أُمامةَ حانَ منكَ رحيلُ ... إنَّ الوداعَ لمنْ تحبُّ قليلُ

تلكَ القلوبُ صوادياً تيَّمْتها ... وأرَى الشِّفاءَ وما إليهِ سبيلُ

أعذرتُ في طلبِ النَّوالِ إليكمُ ... لو كانَ من ملكَ النَّوالَ نبيلُ

وقال ذو الرمة:

لعمركَ إنِّي يومَ جرعاءَ مالكٍ ... لشوقيَ منقادُ الجنيبةِ تابعُ

فأخْذُ الهوَى فوقَ الحلاقيمِ مُخرسٌ ... لنا إذْ نُحيَّا أن نسلِّمَ مانعُ

فلمَّا عرفْنا آيةَ البينِ بغتةً ... وهذا النَّوى بينَ الخليطينِ قاطعُ

لحِقْنا وراجعنا الحمولَ وإنَّما ... تُقضِّي دياناتِ الوداعِ المراجعُ

فلمَّا تلاحقْنا ولا مثلَ ما بنا ... منَ الوجدِ لا تنقضُّ منهُ الأضالعُ

غدونَ فأحسنَّ الوداعَ فلمْ نقلْ ... كما قلنَ إلاَّ أن تشيرَ الأصابعُ

وخالسنَ تبساماً إلينا كأنَّما ... تصيبُ بهِ حبَّ القلوبِ القوارعُ

وقال الحسين بن الضحاك:

هلاَّ رحمتِ تلدُّدَ المشتاقِ ... ومننتِ قبلَ فراقهِ بتلاقي

نفسِي الفداءُ لخائفٍ مترقِّبٍ ... جعلَ الوداعَ إشارةً بعناقِ

إذْ لا جوابَ لمفحمٍ متحيِّرٍ ... إلاَّ الدُّموعُ تصانُ بالإطلاقِ

وقال عبيد الله بن الصمة:

ولمْ أرَ مثلَ العامريَّةِ قبلَها ... ولا بعدَها يومَ التقينا مودِّعا

شكوتُ إليها فيضةَ الحيِّ بالحشا ... وخشيةَ شملِ الحيِّ أنْ يتصدَّعا

فما راجعتْنا غيرَ صمتٍ وإنَّه ... تكادُ لهُ الأحشاءُ أنْ تتقطَّعا

لقد خفتُ أن لا تقنعَ النَّفسُ دونَها ... بشيءٍ منَ الدُّنيا وإنْ كانَ مُقنعا

وأعذلُ فيها النَّفسَ إذا حيلَ دونَها ... وتأبَى إليها النَّفسُ إلاَّ تطلُّعا

وقال الطرماح:

كأنْ لم يرعكَ الظَّاعنونَ ببينهمْ ... بلَى مثلُ فقدِ الظَّاعنينَ يروعُ

<<  <   >  >>