للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتلقيه اللغة عن الأعراب في المربد والعلماء في حلقات البصرة ومجامعها العلمية، وتلمذته على كثير من أساتذة الثقافة في شتى مناحيها كأبي يوسف القاضي والنظام والأصمعي والأخفش وابن الأعرابي وأبي عبيدة. وأبي زيد الأنصاري، كان له أثره في ثقافة الجاحظ الواسعة الجوانب المتعددة الألوان.

وشخصية الجاحظ تطالعك في أدبه وكتبه من كل جانب وناحية، وهي شخصية رجل الفكر الواثق بشخصيته وعقليته وثقافته، والمؤمن بها، الحريص على كرامته، المعتز بنفسه.. يخاطب الوزراء والعظماء ويراسلهم، فلا يفني شخصيته في شخصياتهم، بل يراهم إخوانه، ويرى له عليهم حق الصداقة ودالة الأخوة، ولا يجبن عن توجيه العتاب واللوم إليهم، وأنت حين تقرأ في كتب الجاحظ ومؤلفاتة تغيب في جو بعيد تطل عليك فيه شخصية الرجل، بسعة ثقافتها وبعد مكانتها، وبتوجيهها الساحر لعقل القارئ وفكره وشعوره حتى ليكاد ينسى أمامها نفسه، ويشرع شعورًا صادقًا أنه قد نقلك من جوه هو إلى جو آخر تشيع فيه روح قوية ساحرة تملك عليك عقلك وعاطفتك، وتروعك بكثرة حفظها وروايتها، كما تروعك بروعة فكرها وجلال بيانها، وتتركك صريعًا في معارك فكرية ترى الجاحظ فارسها المعلم، وترى قلمه البليغ عصا الساحر المتحدى تسترعي السمع والبصر، وتنبهت الفكر والعقل، وتلهب العاطفة والشعور.

والعجيب أن سعة ثقافة الجاحظ وكثرة روايته في تأليفه جعلت كثيرًا ممن لا يفهمون الجاحظ يرونه كاتبًا لا شخصية له، تطمس شخصيات من يروى لهم وينقل عنهم كل أثر لشخصيته، فتقرأ الجاحظ وأنت تقرأ لسواه وتبدو أمام عينك صورة شتى لرجال لا ترى الجاحظ فيهم ولا تلمس آثاره بينهم.

ومنشأ ذلك أن الجاحظ رجل من الخاصة في فكره وفي كتابته وأسلوبه وفي بحثه وتأليفه، فإذا فكر فبعقل الخاصة، وإذا كتب

<<  <  ج: ص:  >  >>