والذيوع، ومن كثرة الاستطراد الذي يستدر به الجاحظ نشاط القارئ وإعجابه كما يقول الجاحظ في تعليله له، والجاحظ حين يعلل عدم ترتيبه للخطباء الذين ذكرهم في كتابه ترتيبًا يتمشى مع التاريخ بعجزه عن تنسيق ذلك فإن ذلك يقابل بتحفظ كبير، فالجاحظ لو أراد لما أعجزه إنما هو مذهبه في الاستطراد والانتقال.
ويبدو من أسلوب الكتاب أن الجاحظ كان يكتب أصوله -أو كثيرًا منها- محاضرات يلقيها على تلاميذه وطلابه وقد يسبغ عليها أحيانًا روحًا توائم بين هذه المحاضرات وبين ما يجب لمن أهدى إليه كتابه من تقدير وإجلال، وأسلوب الكتاب الاستطرادي جعل الجاحظ يعدنا في كتابه بأنه سيذكر الشيء ثم لا يذكره ولا يفي بوعده، وهذا الأسلوب الاستطرادي أيضًا جعل الجاحظ ينقد نفسه في ترتيب فصول كتابه وجعله يرسم منهجه في أجزاء كتابه في آخر الجزء الأول منه، وجعله يضع في أماكن متعددة من كتابه عناوين مختلفة تقابل من القارئ بمزيد الابتسام. فهو يعنون فصولًا بباب البيان وأخرى يسميها باب الصمت وأخرى باب اللحن أو باب الزهد إلى آخر هذه الألقاب التي تعلم أن الجاحظ لم يرد شيئًا منها ولم يضعها إلا للتعزيز بالقارئ واكتساب نشاطه وامتحان ملكاته.
وكتاب "البيان" يجمع بين دفتيه الكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي وقوانين البلاغة العربية، وقد نهج فيه الجاحظ منهجه الساحر، وكتبه بأسلوبه العميق المحكم، ورسم فيه صورًا صادقة لروح الأدب والبلاغة إلى عهده، والكتاب سجل للأدباء والشعراء والخطباء حتى عصر الجاحظ وهو ذو قيمة فذة في تاريخ الأدب والأدباء لا سيما المعاصرين للجاحظ ومن سبقوه بقليل، وقد عني فيه الجاحظ بتدوين المثل الساحرة من الأدب العربي: شعره ونثره، وقاده الاستطراد إلى الإلمام بكثير من مسائل الأدب والنقد والبيان.