ولقد لمعت عبقرية عبد القاهر الجرجاني -المتوفى عام ٤٧١هـ- في هذا العهد، وكان مظهر هذه العبقرية اللماحة كتابان جليلان ألفهما قبل وفاته بقليل هما "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" اللذان يعدان حتى اليوم أصلًا ضخمًا من أصول البيان وبحوث البلاغة والنقد والموازنة. وبعد عبد القاهر انطفأ السراج، وذبل العود، وأصيبت الأذواق بالعي والعجز كما أصيبت البلاغة بالتأخر والاضمحلال.. وبعد نحو قرن ونصف قرن ظهر فجأة السكاكي بعقليته المنطقية وذوقه الأعجمي، فأحال البلاغة إلى جدل عقيم في الألفاظ والأساليب، وإلى قواعد جافة لا صلة لها بالذوق ولا بالحياة، وكثر تلاميذ السكاكي. وانتشر مذهبه في البلاغة الذي يمثله القسم الثالث من كتابه "المفتاح"، والذي عني فيه بالقشور لا باللباب وبالتوافق لا بالحقائق، ولا تزال دراستنا للبلاغة حتى اليوم قائمة على أصول مذهب السكاكي وتلاميذه وحده دون سواه.
٢- ولقد نهض جماعة من أدبائنا يدعون إلى التجديد في البلاغة، فمن قائل: إن الكتب القديمة يجب أن تحل محلها كتب أخرى مؤلفة على النهج الحديث، ومن دعاة إلى تلقيح البلاغة العربية بأصول الدراسات البلاغية في شتى اللغات الحديثة الأوربية، ومن ناهجين مناهج الغرب في بحث أسرار البلاغة وأصولها، ومن منادين إلى مذاهب البلاغيين القدماء من أمثال عبد القاهر وقدامة وأبي هلال. وهكذا تعددت الآراء، وتخاصمت الأفكار، في التجديد في البلاغة، وبيان كيف يكون هذا التجديد، على أن أذواق علمائنا المعاصرين وأدبائنا المشهورين لا تكاد تساعد على الوصول إلى هدف أو غاية ينشدها المشفقون على البلاغة العربية اليوم. والذين يحاولون التجديد فيها يكتفون بنقل أفكار الغربيين دون فهم أو يقظة فكرية أو إلمام ما بتراثنا القديم الخالد في البلاغة والبيان والنقد.
ومن صور البحث البلاغي والنقد البياني ما قرأناه في مجلة