للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من صمت فادّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر, قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما، والتجاوز مغرما.

وفي هذا الحوار رأى ابن رافع أن يجيب صاحبه عن هذه الأسئلة كلها أجوبة سداها الحكمة والقول الفصل والآيات البينات والأفكار الرائعات، تراه يقول له: إن أجدر الناس بالصنيعة ذو الخلق الكريم من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وأولى الناس بالمنع الحريص الكائد، وأكرم الناس عشرة من إذا ظلم صفح، وألأمهم من إذا سأل أراق ماء وجهه وإذا سئل بخل، وأحلم الناس وأحزمهم من عفا عند المقدرة وفكر في العواقب، وإن أخرق الناس من لم يعد للشيء عدته قبل الإقدام عليه، وأجودهم من جاد بالمجهود، وأبلغهم من عرض المعنى الغزير في اللفظ الوجيز, وأنعم الناس عيشا من تحلى بالعفاف، وأشقاهم من لم يرض بما وهب الله له وحسد الناس على آلائهم، وأحكم الناس المفكر المعتبر، وأجهلهم من ركب متن الشطط وأسرج أفراس هواه.

ويؤخذ على هذه الحكم كثرة التكرار في المعنى الواحد، وعرضه في مواطن متفرقة؛ وقد كان خليقا أن تذكر الحكمة مع الحكمة التي تتجاور معها وتتزاوج فترى فيها تساؤلا عن الأيادي وعن الصنيعة، والمراد منهما شيء واحد وعن الحزم والحكمة وعن الكرم والجود وعن الخرق والجهل، وكلها معانٍ تدور في فلك واحد, ومع ذلك لم تجئ منسقة ولم تنبؤ أن كل حكمة مقعدها إلى جانب الحكمة التي تلائمها وتتسق معها مشربا وروحا.

أما الأسلوب فيتجلى فيه ذلك الطابع العام للنثر الجاهلي من جزالة اللفظ ومتانة التركيب وقوة العبارة وإحكام النسج وقصر الفقرات والجنوح إلى الإيجاز وقلة الروابط بين الجمل، بحيث ترى الحكمة قد اطردت من غير مناسبة قوية، حتى إننا نستطيع أن نقدم ونؤخر في العبارات، ولا يتأثر المعنى ولا تضطرب الفكرة ولا يختل النظم، كما يتجلى في السجع الذي يغلب على الحكم والخطب والوصايا وتخرصات الكهان.

هذه الحكم نفسها هي أكبر مظهر للعقلية العربية، والعرب لم يمتحوا من

<<  <   >  >>