للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والوصايا كثيرة في النثر الجاهلي وخاصة الحجازي. وتمتاز بجمالها وتناسب جملها وأساليبها, وبرقتها وروعتها, وما يشيع فيها من حكمة، وصدق تعبير، ونفاذ فكر، وبعد نظر؛ لأنها لا تصدر إلا من حكيم مجرب، أو كبير عرك الحياة وعركته الحياة. وربما كانت الوصية في الأدب الحجازي مزيجا من الشعر والنثر كما في وصية ذي الإصبع العدواني التي سنذكرها فيما بعد.

وإليك طائفة من وصايا الحجازيين في الجاهلية:

١- وصية أبي طالب لقريش, حين حضرته الوفاة:

يا معشر قريش: أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، الواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم إلب١، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش، وثباتا للوطء, صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأة٢ في الأجل، وزيادة في العدد، اتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة؛ فإن فيهما محبة في الخاص، ومكرمة في العام.

وإني أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان٣, وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا


١ واحد, يجتمعون عليه بالظلم والعدوان.
٢ أي: فسحة.
٣ القلب.

<<  <   >  >>