في سخاء, ويجمعون بين صفتي الكرم والسلب، فهم لصوص كرام شجعان, يعفون عن المحارم.
هذا التحلل من النظام القبلي تبعه تحلل من شخصية القبيلة في الشعر، فلم يعن هؤلاء الصعاليك بتمثلها والتعبير عنها، هم انفردوا بأنفسهم في الحياة وانفردوا بها في الشعر، فكان قصيدهم مثالا قويا لشخصياتهم وسلوكهم, لا يكتمون منه شيئا ولا يقصرون في التعبير عنه، فامتازوا بالصدق والصراحة والقوة، وظهرت هذه الصفات في فنهم، فكان طريفا مقبولا, هو من الشعر الغنائي الصحيح الذي يعتز بالشخصية الفردية, وبهذا المذهب الثوري أو الاشتراكي.
والذي يعنينا هنا أن شعر هؤلاء كان مثالا لشعر سياسي طريف، هو شعر الثورة والكفر بأوضاع فرضت عليهم الحرمان والفقر المدقع، بجانب هذا الفقر العام في البلاد كلها، حتى كانت حياة العرب خشنة مضطربة المناهج١.
وفي شعر الشنفرى وتأبط شرا من صعاليك الحجاز، وغيرهم من صعاليك العرب عامة، نرى مثالا واضحا لشعر المعارضة الثائر، الذي يصور تصويرا دقيقا حياة الصعاليك وفتكهم وجراءتهم، وقدرتهم الفائقة على العدو، وصبرهم على الجوع والمكاره، وخروجهم على نظام القبيلة العام، ونقدهم لهذا النظام، وثورتهم على الأغنياء البخلاء الذين يختصون بالأموال دون الفقراء.
والصعلوك يفارق قومه، ويقلي عشيرته؛ لأنها تقيم على ضيم، وهو يأبى الضيم، ولأنها تذيع السر، وهو يحفظ السر، ولأنها تخذل الجاني بما ارتكب من جنايات، وهو ينفر من هذا الخذلان. ولذا فهو يلتمس له مضطربا في الأرض ينأى به عن الأذى، ومنعزلا فيها يشعره بالحرية والكرامة، ويقيه أسباب القلى والبغض، وهو يستبدل بأهله وعشيرته أهلا وعشيرة من الحيوان والوحش، من كل ذئب قوي سريع ونمر أرقط ناعم الأديم، وضبع عرفاء "كثيفة شعر الرقبة"، من كل أبي باسل من هذه المخلوقات التي لا تذيع سرا ولا تخذل صديقا أيا كانت جريرته.