للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والنقمة عليها ... وقد عرف الحجازيون في العصر الجاهلي هذا اللون من نقد السلطة الحاكمة والتشهير بها على الحيطان في شكل مصغر للمنشورات السرية أو السياسية، لنقد الحكومات في العصور الحديثة ... ومن ذلك ما ذكروه من أن الناس في مكة قد أصبحوا ذات يوم, فإذا مكتوب على دار الندوة:

ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشى السفاسير

وأكلها اللحم بحتا لا خليط له ... وقولها رحلت عير، أتت عير١

فأنكر الناس ذلك، وقالوا: ما قالها إلا ابن الزبعرى! وأجمع على ذلك رأيهم، فمشوا إلى بني سهم -وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضا- فقالوا لبني سهم: ادفعوه إلينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه؟ قالوا: قطع لسانه. قالوا: فشأنكم، واعلموا والله أنه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك, والزبير بن عبد المطلب يومئذ غائب نحو اليمن. فانتحت بنو قصي بينهم، فقالوا: لا نأمن الزبير إن بلغه ما قال هذا، أن يقول شيئا، فيؤتى إليه مثل ما نأتي إلى هذا وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته، فخلوه. فقال له الناس، وحملوه على قومه: أسلمك قومك ولم يمنعوك، ولو شاءوا منعوك! فقال:

لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها

يود جناة الغي أن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها٢


١ قصي: أراد بني عبد مناف بن قصي، وفيهم كان الحكم والسلطان. والأساطير: أباطيل الأحاديث, ولعله أراد بها إخراج قصي خزاعة، وولايته البيت، وتجميعه لقبائل فهر، واتخاذه دار الندوة، ورياسته لها ... إلخ. السفاسير: جمع سفسير، وهو السمسار الذي يدخل بين البائع والمشتري لإمضاء البيع. وقوله: "رحلت عير أتت عير" ينتقد به انغماسهم في الحياة التجارية.
٢ النكر: الأمر المنكر القبيح. شام السيف: طله وأغمده, ضد, والمقصود هنا نغمدها. راجع طبقات فحول الشعراء ١٩٦-١٩٨.

<<  <   >  >>