وخلة الوفاء من السجايا العربية الأصيلة في العربي عامة, والحجازي خاصة. وقد كان الرجل ينطق الكلمة, فإذا هي عهد مبرم يجب أن يفي به, وإلا تعرض شرفه للتجريح والثلم. وقد كان الحجازيون يوثقون عهودهم الجماعية بالله وبالدم، وبالماء والطيب، وكانوا يتمسحون بالكعبة لتثبيتها وتوكيدها, وكان الغدر بالعهد والميثاق مخزاة تثلم الشرف، ومعرة يجب اجتنابها. وكانت العرب ترفع لواء في سوق عكاظ تشهيرا بالغادر الناكث للعهد.
ولما أحست قريش بخطر حرب الفجار -وكانت العرب, كعادتها في المواسم، قد أودعت أسلحتها لدى عبد الله بن جدعان- طلبت إليه أن يسلمها الأسلحة المودعة لتدافع بها عن كيانها، ولكنه أبى أن يفرط في الأمانة حتى ولو كان السبب الذياد عن حياض الوطن ... وكفاهم مئونة الأمر بأن أسهم مع المسهمين في تزويدهم بأكبر قسط من العتاد والأسلحة.
وكان الحجازيون يفون بالعهد حتى لو طرأ ما يوجب النقض؛ فقد كان البراض بن قيس الكناني سكيرا فاسقا تبرأ منه قومه وخلعوه, ثم شرب في بني الدئل فخلعوه أيضا، فاستجار بحرب بن أمية فأجاره وأحسن جواره، ولكنه شرب بمكة وأتى ما يستوجب التبرؤ منه، وأحس هو بأن ما ارتكبه خليق أن يخلعه، فقال لحرب:"إنك إن خلعتني لم ينظر إلى أحد بعدك، فدعني على حلفك, فأنا خارج عنك" ثم تركه وخرج ولحق بالنعمان بن المنذر بالحيرة.
ولقد ضرب العرب المثل في الوفاء بالسموءل, وهو من أصل يهودي, ولكنه نبت في بيئة عربية حجازية، فاستقى هو وأبوه هذه الخلة الحميدة من أخلاق العرب والحجازيين. وكان الشاعر امرؤ القيس قد أودعه مائة درع، فأتاه الحارث بن ظالم أو الحارث الغساني ليأخذها منه, فتحصن منه, فأخذ الحارث ابنا له غلاما وكان في الصيد فقال:"إما أن سلمت الأدراع إلي, وإما أن قتلت ابنك" فأبى السموءل أن يسلم إليه الأدراع، فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين. وفي ذلك يقول السموءل: