للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه ما من أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر؛ استحياء مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته, فقال:

شربت الخمر حتى قال قومي ... ألست عن السفاه بمستفيق

وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى الترب السحيق

وحتى أغلق الحانوت رهني ... وآنست الهوان من الصديق

وكان سبب تركه الخمر أن أمية بن أبي الصلت شرب معه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب، فقال له: ما بال عينك؟ فسكت. فلما ألح عليه قال له: أنت صاحبها أصبتها البارحة, فقال: أوبلغ مني الشراب الحد الذي أبلغ معه من جليسي هذا؟ لا جرم لأدينها لك ديتين، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: "الخمر علي حرام أن أذوقها أبدا"، وترك من يومئذ١.

وذكر ابن قتيبة أن كثيرا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية؛ لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها. وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما شرب أبو بكر خمرا في جاهلية ولا إسلام". وقال عثمان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت ولا شربت خمرا في جاهلية ولا إسلام"٢.

وربما حرموا الخمر تحريما مؤقتا فتجافوا عنها وعن النساء والطيب, وذلك حين يملأ قلوبهم الموتورة الحقد على الأعداء، وطلب الثأر والانتقام. قال قيس بن الخطيم:

ومنا الذي آلى ثلاثين ليلة ... عن الخمر حتى زاركم بالكتائب

ولما هبطنا الحرث قال أميرنا ... حرام علينا الخمر ما لم نحارب

فسامحه منا رجال أعزة ... فما برحوا حتى أحلت لشارب

ويبدو أن الخمر أهم اللذائذ التي كانوا يصدون أنفسهم عنها حتى يثأروا.


١ الأغاني "٨/ ٣٣٢ دار الكتب".
٢ الأشربة ٢٧.

<<  <   >  >>