والواقع أن الجاهليين حين قصروا الهجاء بمعناه الأدبي على شكله الشخصي كانوا محقين. فقد نشأ الهجاء عندهم كما نشأ الهجاء عند غيرهم من الأمم تنديدا بالمعايب الشخصية أول الأمر، ثم تقدم الهجاء عندهم كما تقدم عند غيرهم، وارتفع عن الأحقاد الخاصة إلى عنصر الحياة العامة؛ فكان منه السياسي، وكان منه الأخلاقي، وكان منه الديني.
وهنا يجب أن نشير إلى فرق دقيق بين نوعين من الأدب لا ينبغي أن نخلط بينهما, هما: شعر الهجاء والشعر التهذيبي "أو الأدب" كما كان يسميه بعض نقادنا القدماء. فالشعر التهذيبي يقصد به الوعظ والإرشاد، أما الهجاء فيرمي به صاحبه إلى العقوبة والانتقام. فالأول يقدم درسا في الأخلاق أو الدين والفلسفة.
أما الهجاء فهو شريعة القصاص -كما يقول أرنولد- من المجرمين الذين لا تنالهم يد القانون القصيرة، فالهجاء يرى أن هناك طائفة من المجرمين قد غلظت طبائعهم بما أشربوا في قلوبهم الباطل والإثم والغرور حتى ما يؤثر فيهم نصح أو تحذير, فهو ينشر على الناس مخازيهم، ويجعلهم أضحوكة ومثلة، وقد لا يرجو من وراء عمله هذا أن يصلحهم أو يطهرهم. فالعلاقة بين الشعر التهذيبي والشعر الهجائي هي كالصلة بين المدرسة والمحكمة؛ أحدهما يسعى لتكوين الفضيلة ونشر الحكمة, والآخر ينزل عقابه بالرذيلة ويهتك الستر عن الحماقة والسفه ... دافع الشعر التهذيبي رغبة صادقة في الإصلاح، ودافع الهجاء شهوة الغضب والانتقام١.