للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤- علاقة الهجاء بالسحر:

وقد كان فن الهجاء من أكثر الفنون الشعرية ارتباطا بالسحر في أوهام العرب؛ ذلك لأن الخفاء والغموض اللذين لازما فن الشعر كانا أليق بالشر، وأدنى أن يبعثا الرهبة والخوف في قلوب الناس. فقد كانت العرب تزعم أن لكل شاعر رئيا من الجن يسمونه تابعا أو هاجسا, وذلك واضح في قصصهم وفي شعرهم١.

ووجه الشبه بين السحر والهجاء واضح؛ فالسحر كلمات تقال فيصيب شرها المسحور، وينصب ما تضمنت من لعنة على المقصود بالإيذاء، والهجاء كذلك كلمات تقال فيها معنى الشر واستمطار اللعنة. والساحر يتوسل إلى شياطينه وأرواحه الشريرة أن تعينه على إلحاق الأذى بالمسحور، والهجاء يستلهم شياطينه الهجاء ويستعينها على المهجو. ولذلك غلب ذكر شياطين الشعر في الهجاء بنوع خاص ولأمر ما نسب الناس هذه القوة الخفية التي تمد الشاعر بالشعر للشر ولم ينسبوها للخير، فقالوا: "شياطين الشعر"، ولم يقولوا: "ربة الشعر" كما تعود اليونان أن يقولوا.

وقد كان الشاعر إذا هجا ربما خرج على الناس في زي غريب غير مألوف, وبالغ في مسخ شكله وتشويه خلقته. وكان حسان بن ثابت يلوث شاربه وعنقفته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم، وروى الألوسي في بلوغ الأرب: "أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء, دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة"٢. لذلك كان العرب شديدي الخوف من الهجاء, وكانوا يرون بيت الهجاء متضمنا قوى خفية, ولعنة تصيب من تحل به. ويقول مزرد بن ضرار الذبياني "أخو الشماخ بن ضرار"


١ مقدمة ابن خلدون ص٨٠، ٤١٦.
٢ بلوغ الأرب ٣/ ٤٠٧.

<<  <   >  >>