للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عذر المحتهد إذا أخطأ]

قال يرحمه الله: [ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين] .

هذه المسألة حصل فيها الخلاف بين المعتزلة وغيرهم، فقد قال النظام وتبعه على ذلك عدد من المعتزلة: (كل من اجتهد في طلب الصواب فهو مصيب، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها) وعلى هذا يعذرون من كان من الكفار والمنافقين والضلال مجتهداً في طلب الحق ولم يكابر، وإنما أداه عقله الذي خصه الله به إلى الوصول إلى رأي يراه عينَ الصواب وهو غير مكابر، فيعذرونه.

وهذا القول، دونه قولُ الذي ذهب إليه إمام الحرمين -هنا- وغيره من المتكلمين، من أن الأمور العقدية لا اجتهاد فيها مطلقاً، وأن المخطئ فيها غيرُ معذور، وذكروا عن عدد من الأئمة أنه كان يقول: (اسألني في علم إذا أخطأتُ فيه قلتَ: أخطأتَ، ولم تقل كفرتَ، ولا تسألني عن علم إذا أخطأتُ فيه قلت: كفرت) .

وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن من كان من أهل الإيمان والصلاح والالتزام فاجتهد فهو معذور مطلقاً، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها.

وهذا القول وسط بين القولين السابقين، ولعله أقرب للصواب، وأسعد بالدليل.

فإذا كان الإنسان معروفاً بالصلاح والالتزام والخشية واجتهد فأخطأ في تأويل الصفات أو في غير ذلك من الأمور، فهو معذور في ذلك الاجتهاد، ولا يضره اجتهاده بل هو مثاب عليه.

وإن كان معروفاً بالفساد والإنكار لأمور الدين ونحو ذلك: فلا يُعذر، ولا يُقبل منه الاجتهاد أصلاً في ذلك.

ثم قال رحمه الله: [ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيبًا، قوله صلى الله عليه وسلم: (من اجتهد وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ له أجر) وقد روى هذا الحديث بالمعنى.

[ووجه الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطَّأ المجتهد تارة، وصوبه أخرى] ، لأنه قال: (فأصاب) ، وقال: (فأخطأ) ، فدل ذلك على أنه محتمل للأمرين: للإصابة والخطأ.

وفي الأخير قال رحمه الله: [والله سبحانه وتعالى أعلم] ، وذلك بإحالة العلم إلى الله تعالى فيما نجهله نحن، ومن سنة أهل السنة، أن يقولوا فيما التبس عليهم: (الله أعلم) .

والإنسان إذا تكلم في أمور الدين الظنية، فمن الأفضل أن يختم كلامه بذلك؛ لأنه قد يكون وقع في خطأ، فيحيل العلمَ إلى الله سبحانه وتعالى فيه.

ومن هنا فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول في المسألة إذا سئل عنها فاجتهد: [أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن فضل الله ورحمته، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان] .

وبهذا أنهى ما ذكر في خطبته للكتاب، وإن كان كما ذكرنا لم يحتو كل أبواب أصول الفقه، لكنها مقدمات مفيدة للمبتدئين في أصول الفقه، يُعرف بها كثير من الاصطلاحات ورءوس المسائل التي يحتاج إليها من يدرس هذا العلم.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا، وأن تزيدنا علماً وعملاً وإخلاصاً يا أرحم الراحمين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا؛ واجعل الجنة هي دارنا! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>