[طرق الخروج من التعارض إذا كان الدليلان عامين]
وللخروج من التعارض طرق: أولاً: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فيجمع بينهما حينئذ، ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عكيم (أنه كتب إليهم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ، فجمع بينهما أن الإهاب اسم لما لم يدبغ، فيحمل حديث ابن عكيم على ما لم يدبغ، وحديث ابن عباس على ما دبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، وما لم يدبغ باق على النهي، ومحل هذا عند صحة حديث ابن عكيم والراجح فيه عدم الصحة.
ثانياً: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر إذا علم التاريخ، ومثال ذلك: قول الله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:١٨٤] ، فقوله: (فمن تطوع خيراً فهو خير له) ، يدل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، فإنه قال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:١٨٤] وهذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحينئذ يُجعل الثاني ناسخاً، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق عليه.
ثالثاً: وإن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، وقد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان، (من مس ذكره فليتوضأ) ، وحديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء، قال: (لا، إنما هو بضعة منك) ، فهذان الحديثان تعارضا، ولم يعرف التاريخ بينهما، لم يعرف أيهما السابق، فيتوقف بينهما، وعند الحنفية يرجح حديث طلق بن علي عن حديث بسرة بنت صفوان؛ لأن هذا من أحكام الرجال، ولم يروه أحد من الرجال، فلا يؤخذ برواية المرأة له، وعند الجمهور يرجح باعتبار قوة الإسناد، وحديث بسرة لا شك أقوى إسناداً من حديث طلق بن علي، وأيضاً فإن العمل بالاحتياط؛ للخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، مرجح لحديث بسرة على حديث طلق، هذا إذا كان الدليلان عامين.
أما إذا كان الدليلان خاصين فللخروج من التعارض بينهما طرق: الطريق الأولى: الجمع بينهما، كما في حديث جابر، في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة) ، وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا وهما خاصان، فجمع بينهما النووي بقوله: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، ولكن قد يحمل هذا على أن أحدهما نسي وأن الآخر ذكر، وأن الأمر جائز، إذ لو كان الأمر مما يطلب فيه الحسم لجاء فيه نص حاسم.
والطريق الثاني: إن لم يمكن الجمع بينهما فالثاني ناسخ إن علم التاريخ، مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:٥٠] ، فظاهر هذا إباحة الزواج للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون انحصار في عدد محدد، ثم أنزل قول الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:٥٢] ، وقد علم أن هذه الآية نزل بها جبر يل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم بـ ميمونة بنت الحارث، وهي آخر امرأة تزوجها، فعلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، ومع ذلك ففي حديث عائشة أنه ما توفي حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح، فيدل ذلك أيضاً على أن هذه الآية نسخت.
والطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح، مثل حديث ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وفي حديث ابن أختها عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فـ ميمونة صاحبة القصة مقدمة في الرواية على ابن عباس، وأيضاً يشهد لحديث ميمونة حديث أبي رافع، فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال وكنت السفير بينهما، فهو صاحب القصة أيضاً؛ لأنه السفير بينهما، فهو مقدم في الرواية على ابن عباس، ويرجح أيضاً بكثرة العدد في الرواية، فكونه تزوجها وهو حلال روته ميمونة وأبو رافع، وكونه تزوجها وهو محرم انفرد به ابن عباس.
أما الحالة الثالثة من أوجه التعارض فهي أن يكون بين دليلين، أحدهما عام والآخر خاص: فيُخصص العام بالخاص، وذلك مثل قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] فعمم كلَّ سارق وكل سارقة، وخصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً) ، وبقوله: (لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر) ، وكذلك قوله: (حتى يؤويه الجرين) ، وكذلك قوله: (ولا في حريسة الجبل) .
وكل هذا يدل على تخصيص السرقة بالنصاب وأن يكون مما لا شبهة للسارق فيه، وأن يكون محرزاً بحرز جنسه، فتعتبر هذه الأحاديث مخصصة لعموم الآية.
أما الحالة الرابعة: وهي أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، والآخر أخص من الآخر من وجه فيجمع بينهما باختلاف المحل، بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر، إن دل على ذلك دليل، ومثاله قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:٢٣٤] ، فهذه الآية عامة في المتوفى عنها، فيشمل ذلك الحامل وغير الحامل وهي كذلك خاصة بالمتوفى عنها فتخرج المطلقة، والآية الثانية: ((وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)) فهذه الآية خاصة بالحوامل وعامة في كل ذات فرقة سواء كانت متوفى عنها أو مطلقة، فالعمومان يخصصان بالخصوصين، فيخصص قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:٢٣٤] بأن ذلك في غير الحوامل، أو يخصص بأن ذلك في الطلاق دون الوفاة، وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، فقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشراً أي: بعدة المتوفى عنها مطلقاً، وقيل: تعتد بوضع الحمل، وقيل: بأقصى الأجلين.