[تقسيم الكلام باعتبار الحقيقة والمجاز]
قال المصنف: [ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز] .
هذا تقسيم آخر للكلام، فهو ينقسم إلى: حقيقة ومجاز، قال: (فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه) ، الحقيقة: هي اللفظ المستعمل أولاً، أي: اللفظ الذي بقي على ما استعمل فيه في أول ما عرف.
والمقصود بذلك: اللفظ المستعمل في معناه المتبادر إلى الذهن، فاللفظ قد لا يكون له إلا معنى واحد في الأصل، فهذا المعنى هو الذي وضع له ذلك اللفظ، فاستعماله فيه هو الحقيقة، واستعماله لمعنى آخر ليس معناه الأول بواسطة تشبيه أو نقل يسمى مجازاً.
فعلم أن الحقيقة والمجاز لا يكونان إلا في المركب، فاللفظ المفرد يحمل في الأصل على الحقيقة، فكلمة (أسد) باللفظ المفرد تطلق على الحيوان المفترس المعروف، لكن إذا كانت في أثناء الكلام فيمكن أن تكون على الحقيقة، ويمكن أن تكون على المجاز، مثل: جاء أسد، يمكن أن يكون معناه رجل شجاع، ويمكن معناه الحيوان المفترس المعروف.
وقوله في تعريف الحقيقة: [فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه] .
(ما بقي) أي: ما بقي شائعاً.
(في الاستعمال) ، أي: في استعمال الناس له.
(على موضوعه) ، أي: على ما وضع له على دلالته الأصلية.
ثم قال: [وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة] ، وقد اختلف في اللغة هل هي وضعية -أي: اتفق الناس على وضعها- أو هي توقيفية من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا قلنا: هي توقيفية من عند الله، فلا يقصد بذلك كل ألفاظها، بل ما يحصل به التفاهم في كل لغة، وإلا فإن كل لغة قابلة للثراء والنماء، فتزداد بكثير من الألفاظ المشتقة من أصولها الموجودة، ويندرس منها كثير من الألفاظ كذلك، وهي: الألفاظ التي توصف بالغرابة مع طول الزمن، فكثير من الألفاظ التي كان العرب يستخدمونها لا نستخدمها نحن اليوم، وهي من لغة العرب، لكن لم تعد مستعملة اليوم، وكثير من الألفاظ التي نستخدمها نحن اليوم لم تكن مستخدمة في لغة العرب قديماً، ومع ذلك فالجميع من لغة العرب، والغريب منها والمحدث أو المعرب.
أو غير ذلك كله من لغة العرب؛ لأنه جارٍ على قواعدها، وترتيب حروفها.
والحقيقة: مشتقة من (حق) بمعنى: ثبت واستقر، لا من الحق الذي هو خلاف الكذب، فليس المجاز كذباً، ولو كان كذلك لما جاز وروده في الوحي، فقول الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:٨٢] ، وقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:٧٧] لا يمكن أن يكون هذا كذباً، ولو كانت الحقيقة من الحق الذي هو خلاف الكذب لكان ضدها يوصف بالكذب! وهذا غير ممكن، فالحقيقة هنا: من الحق، الذي هو الثابت المستقر، (فحق عليهم القول) بمعنى: استقر عليهم وتحقق فيهم، فهذا معنى الحقيقة.
قال المصنف: [وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة] ، أي: ما اصطلح الناس عليه، واتفقوا عليه من المخاطبة في أصل الكلام.
قال المصنف: [والمجاز ما تجوز عن موضوعه] .
المجاز في اللغة: مكان الجواز، أي: العبور، فتقول: هذا مجاز، أي: باب يجاز منه إلى غيره، وهو في الاصطلاح: ما تجوز عن موضوعه، أي: ما نقل عما وضع له في الأصل، بمعنى: اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له، أو اللفظ الذي استعمل ثانياً، استعمالاً غير الاستعمال المعهود المتبادر إلى الذهن.