[العلم الضروري]
فالضروري: منسوب إلى الضرورة، بمعنى: الذي يضطر الإنسان إليه، فالإنسان مضطر لأن يعرفه بذاته.
قال: والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال، أي: ما لا يتوقف على نظر واستدلال، والنظر كما قلنا: هو الفكر.
والاستدلال: هو إقامة الدليل، فالضروري هو: ما لا يحتاج إلى التأمل، وما لا يحتاج إلى حركة النفس فيه.
قوله: (كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس) فالمرئيات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات كلها يحصل بها العلم الضروري، فلا يحتاج الإنسان فيها إلى تأمل، فمن سمع كلام إنسان جزم بأنه متكلم، وبأن هذا الكلام صدر منه، ومن رآه يفعل فعلاً جزم بذلك دون أن يحتاج إلى تأمل أو إقامة دليل عليه وهكذا، ولهذا قال: (كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس: وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق) .
وهذه في الواقع ليست هي الحواس، بل هذه وظائف الحواس، فالحواس جمع حاسة، والحاسة التي تحس، وهي العين والأذن والفم والأنف واليد، فهذه هي الحواس، لكن وظيفتها هي الإحساس، والإحساس أنواعه هي هذه الخمس: السمع والبصر والشم واللمس والذوق.
قوله: (أو بالتواتر) وهو ما نقله عدد من الناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن عدد، حتى اتصل العدد بذلك المشاهد أو المحسوس، فهذا الذي يسمى بالتواتر، فهو إخبار عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم لمحسوس.
فالتواتر لا يكون إلا في المحسوسات، فالعقليات لا يحتاج فيها إلى الراوية بالتواتر ولا بالآحاد، وما لا تتعلق به الحواس الخمس لا ينفع فيه الخبر المتواتر ولا يثبته التواتر، وإنما التواتر فيما يشاهد بإحدى الحواس الخمس، والتواتر في الأصل التوافق، والعلم الذي يحصل بالتواتر قطعي، كقطع الإنسان الذي لم ير مكة بوجودها أو بوجود البيت الحرام، فهذا القطع ضروري لا يحتاج إلى التأمل؛ لأنه من عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، فاستقر في ذهنه، ولم يعد قابلاً للنقاش لديه.
ومثل ذلك: ما يحصل للإنسان بخبر من الأخبار سمعه من عدد كثير من الناس فاستيقن به، كمعرفة الإنسان أنه ابن فلان وأن فلاناً والده، وكمعرفة نسبه إلى أجداده وآبائه بالنقل المتواتر، فيستقر ذلك في ذهنه ويجزم به، ولم يعد قابلاً للنقاش لديه.
والتواتر: إنما يكون بحصول عدد الذين لا يمكن أن يتواطئوا على الكذب عادة، وهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من يحصل له العلم بإخبار عدد يسير، إذا جاءت الدواعي متوافرة على عدم كذبهم، ولم تقتض الدواعي كذبهم بوجه من الوجوه، فليسوا من سن واحدة، ولم يخبروا بذلك في مكان واحد، ولا في وقت واحد، فذلك يقطع به، ويعد متواتراً لحصول العلم اليقيني.
والمتواتر كالقرآن -مثلاً- فقد نقله في كل عصر من عصور هذه الأمة الملايين من الناس عمن فوقهم، إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان متواتراً لا يمكن الشك فيه.