قوله:[وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه] .
(وهي) أي: صيغة الأمر، (عند الإطلاق) معناه: عدم تقييده بقيد يصرفه عن ذلك، (والتجرد عن القرينة) أي: عدم وقوع القرينة الحالية التي تصرفه أيضاً عن ذلك، (تحمل عليه) أي: تحمل على استدعاء الفعل على وجه الوجوب، فالأمر في الأصل يحمل على الوجوب، ومحل هذا أمر الشارع، وأمر من هو أعلى؛ فإنه يحمل على الوجوب في الأصل، عند الإطلاق والتجرد عن القرينة، والقرينة: ما يقارن الشيء، وهي: إما حالية وإما مقالية، والمقصود بها هنا الحالية؛ لأن المقالية مذكورة في قوله:(عند الإطلاق) ، فقد خرجت القرينة الحالية بقوله:(عند الإطلاق) ، وخرجت القرينة الحالية بقوله: والتجرد عن القرينة، (تحمل عليه) ، أي: على طلب الفعل على وجه الجزم.
قال المصنف:[إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة] .
هذا الاستثناء منقطع؛ لأن ما دل الدليل على أن المراد به الندب والإباحة ليس عند الإطلاق والتجرد على القرينة.
فالمقصود: أن الأمر إذا لم يحتف بقرينة حالية أو مقالية تدل على عدم إرادة الوجوب؛ فإن محمله على الوجوب، ولكنه إذا دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الندب فإنه يصرف إلى الندب، أو دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الإباحة دل على الإباحة، فإطلاقه الأصلي الوجوب، مثل قول الله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:٤٣] فهذا في الأصل للوجوب، وإذا احتفت به قرينة تقتضي عدم الوجوب عمل بتلك القرينة؛ وذلك فيما إذا قيل: افعل كذا إن شئت، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:(صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال في الثالثة لمن شاء) ، وقال:(بين كل أذانين صلاة، ثم قال: لمن شاء) ، فهذا يقتضي الإباحة؛ لأنه قرنه بقرينة مقالية تقتضي التخيير، ومثل ذلك ما إذا كان الأمر بعد الحظر، كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:٢] ، فهذه قرينة تدل على عدم الوجوب، فلا يجب على من تحلل من الحج والعمرة أن يصطاد؛ لأن هذا الأمر جاء بعد النهي وهو قوله:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}[المائدة:٩٦] ، ومثله قول الله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}[البقرة:٢٢٢](فأتوهن) هنا صيغة أمر، ولكنها لا تدل على الوجوب؛ لأنها جاءت بعد حظر؛ لأنه قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:٢٢٢] ، فجاء الأمر بعد الحظر.
والقرينة الحالية غير المقالية كما إذا كان سياق الأمر للإرشاد الطبي أو نحوه، كبعض الأوامر التي تأتي ويقصد بها الإرشاد، ويفهم من ذلك عدم الوجوب، أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قصد وجوب ذلك الفعل المأمور به، والإرشاد: قد يفهم من القرينة المقالية أيضاً، مثل قوله:(فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) زوروها: هذا أمر بزيارة القبور، ولكنه ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الإرشاد؛ لأنه قال:(فإنها تذكركم الآخرة) فبين العلة وهي قرينة مقالية تدل على عدم إرادة الوجوب.