أصول الفقه علم من أهم العلوم الشرعية؛ لأنه علم يتوصل به إلى فهم الكتاب والسنة وأخذ الأحكام منهما؛ وذلك أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين: جهة الورود، وجهة الدلالة: أما جهة الورود فهي النقل، بمعنى: التحقق من ثبوت نسبة القرآن إلى الله، والتحقق من ثبوت الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بالرواية والإسناد.
وأما جهة الدلالة، فمعناها: ما يراد بهذا الكلام، أي: ما يريده الله من عباده بهذا اللفظ، وما يريده النبي صلى الله عليه وسلم من أمته بهذا اللفظ، وهاتان الجهتان لم يحتج الصحابة رضوان الله عليهم إلى بحثهما، أما جهة الورود فلسماعهم من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأما جهة الدلالة فلأنهم أهل اللسان العربي على وجه السليقة، وكذلك لم تشتد حاجة التابعين إلى البحث فيهما.
أما جهة الورود فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله تعالى لهم؛ لأن الله تعالى يقول:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة:١٠٠] ، ويقول:{فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٩٦] ، فنفى عنهم الفسق بحلول الرضوان عليهم، وإذا انتفى عنهم الفسق وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، ولم يحتج التابعون كذلك إلى البحث كثيراً في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تختلط الحضارة العربية بعد بالحضارات الأخرى اختلاطاً مؤثراً، لكن حين جاء أتباع التابعين احتاجوا إلى البحث في الجهتين: أما جهة الورود فلأنهم لم يلقوا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا الصحابة المعدلين بتعديل الله، وإنما لقوا التابعين وفيهم العدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في جهة الورود، واحتاجوا كذلك إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الحضارة العربية قد اختلطت بغيرها من حضارات أهل الأرض، وتغيرت الأوضاع عما كانت عليه، فانتقلت المدنية التي كانت في الحضارات الأخرى إلى جزيرة العرب، وانتقلت العرب أيضاً عن جزيرتهم، وتغيرت لغتهم، وداخلها كثير من المجاز ومن اللغات الأخرى، فاحتيج -إذاً- إلى البحث في الدلالة.
ومن هنالك جاءت نشأة المذاهب، فليس للصحابة مذاهب ولا للتابعين مذاهب، وإنما بدأت المذاهب مع أتباع التابعين؛ للحاجة إلى البحث في هاتين الجهتين.
وعلم أصول الفقه: هو علم اقتصاد الشريعة، فعلم الاقتصاد في علوم الدنيا: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، وعلم أصول الفقه: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فآيات القرآن الكريم بالعد الكوفي:(٦٢١٤) آية، وبالعد المدني:(٦٢٣٤) آية.
وآيات الأحكام منها خمسمائة آية، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا بالنقل لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، ومواقع الإجماع محصورة قليلة، ومع هذا فالنوازل والوقائع لا حصر لها، فكل يوم يتجدد منها الكثير، ولله تعالى حكم في كل مسألة، وإنما يؤخذ ذلك بالاجتهاد على طرق الاستدلال المعروفة والفهم، وإنما يتم ذلك بأصول الفقه، فلما كان هذا العلم بهذه المثابة؛ احتيج إلى وضع مؤلفات فيه تبين مصطلحات أصحابه، وتبين مرادهم بكثير من الأمور التي تخفى على من سواهم، وأول من جمع كتاباً مستقلاً في هذا العلم هو محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي رحمه الله، وقد ولد سنة (١٥٠هـ) وتوفي سنة (٢٠٤هـ) ، وقد ألف فيه رسالته المشهورة، ثم بعده تتابع الناس على التأليف على هذا العلم.