التَّوْرَاةِ فَقَالَ: " كَفَى بِقَوْمٍ ضَلَالَةً أَنْ تَبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ، أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ» " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥١] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] .
فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ حَتَّى نُحَكِّمَ رَسُولَهُ فِي جَمِيعِ مَا شَجَرَ بَيْنَنَا وَتَتَّسِعَ صُدُورُنَا لِحُكْمِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا حَرَجٌ، وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا فَلَا نُعَارِضُهُ بِعَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ، فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ الْعَقْلَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَقَدْ شَهِدُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِمَعْنَاهُ وَإِنْ آمَنُوا بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ مَرْدُودٌ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَلَوْ قُدِّمَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَى حُكْمِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَاكِمَ بِكِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣] فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ وَحْدَهُ وَنَهَى عَمَّا خَالَفَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ بَيِّنَةٌ وَهَدًى وَشِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ وَنُورٌ مُفَصَّلًا وَبُرْهَانًا وَحُجَّةً وَبَيَانًا، فَلَوْ كَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يُعَارِضُهُ وَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلْعَقْلِ دُونَهُ.
[اتفاق العقل والنقل]
الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ مَا عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَارِضَهُ الشَّرْعُ الْبَتَّةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ فِيمَا تَنَازَعَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ وَجَدَ مَا خَلْفَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ شُبَهَاتٍ فَاسِدَةً يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهَا، بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُ نَقِيضِهَا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ، تَجِدْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْعَقْلِ لَمْ يُخَالِفْهُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرُّسُلَ لَا يُخْبِرُونَ بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَجَازَاتِ الْعُقُولِ، فَلَا يُخْبِرُونَ بِمَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute