للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: ٣١] ، ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: ٥] فَذَكَرَ الدُّعَاءَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ نُوحٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَيَجْهَرُونَ بِهِ خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ عَلَتْ أَصْوَاتُكُمْ صَوْتِي» ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ صَوْتَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْقُرْآنِ وَلَا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَاعْتَلَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، قِيلَ لَهُ إِنَّمَا قَالَ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ لَا كَلَامَكَ وَنَغْمَتَكَ وَصَوْتَكَ، إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُوسَى بِكَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ يَسْمَعُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى لَمْ يَكُنْ لِمُوسَى عَلَيْكَ فَضْلٌ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ لَوْ كَانَ هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى فِي ذَلِكَ.

[فصل جواب السؤال هل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة]

فَصْلٌ

وَإِذَا قِيلَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَرْفَ حَرْفَانِ: فَالْحَرْفُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ مَخْلُوقٌ، وَحُرُوفُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ.

قِيلَ: لَيْسَ بِوَاحِدٍ بِالْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِالنَّوْعِ، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَخْلُوقٍ وَغَيْرِ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ لَا بِالْعَيْنِ.

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ لَهُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَمَرْتَبَةٌ فِي الْخَطِّ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ، وَالثَّانِيَةُ وَجُودُهُ الذِّهْنِيُّ، وَالثَّالِثَةُ وَجُودُهُ اللَّفْظِيُّ، وَالرَّابِعَةُ وَجُودُهُ الرَّسْمِيُّ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ تَظْهَرُ فِي الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، كَالشَّمْسِ مَثَلًا وَفِي أَكْثَرِ الْأَعْرَاضِ أَيْضًا كَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِهَا، وَيَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ فِي بَعْضِهَا كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، أَمَّا الْعِلْمُ فَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَرْتَبَتِهِ فِي الْخَارِجِ وَمَرْتَبَتِهِ فِي الذِّهْنِ، بَلْ وُجُودُهُ الْخَارِجِيُّ مُمَاثِلٌ لِوُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّ وُجُودَهُ الْخَارِجِيَّ مَا قَامَ بِاللِّسَانِ، وَوُجُودَهُ الذِّهْنِيَّ مَا قَامَ بِالْقَلْبِ، وَوُجُودَهُ الرَّسْمِيَّ مَا أَظْهَرَ الرَّسْمُ، فَأَمَّا وُجُودُهُ اللَّفْظِيُّ فَقَدِ اتَّحَدَتْ فِيهِ الْمَرْتَبَتَانِ الْخَارِجِيَّةُ

<<  <   >  >>