للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اتِّفَاقِهِمْ حُجَّةً؟ فَأَمَّا النَّقْلُ وَالِاتِّفَاقُ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَدْ أَبْطَلُوا جَمِيعَ عَقْلِيَّاتِكُمُ الَّتِي لِأَجْلِهَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ نِسْبَةَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ وَجْهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَسَلِمَ لَهُمُ النَّقْلُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ، فَكَيْفَ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ مِنْ جَانِبِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادِ.

التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْا حَذْفَهُ وَإِضْمَارَهُ يَلْزَمُهُمْ فِيهِ كَمَا لَزِمَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا قَدَّرُوا وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَيَأْتِي أَمْرُهُ وَيَجِيءُ أَمْرُهُ وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ، فَأَمْرُهُ هُوَ كَلَامُهُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَيْفَ تَجِيءُ الصِّفَةُ وَتَأْتِي وَتَنْزِلُ دُونَ مَوْصُوفِهَا، وَكَيْفَ يَنْزِلُ الْأَمْرُ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ.

وَلَمَّا تَفَطَّنَ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ قَالَ: أَمْرُهُ بِمَعْنَى مَأْمُورِهِ، فَالْخَلْقُ وَالرِّزْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ وَالْمَرْزُوقِ فَرَكَّبَ مَجَازًا عَلَى مَجَازٍ بِزَعْمِهِ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَإِنَّ مَأْمُورَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَيُخْلَقُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ يَقُومُ بِهِ، فَلَا كَلَامَ يَقُومُ بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجَازُ الْكِنَايَةِ عَنْ سُرْعَةِ الِانْفِعَالِ بِمَشِيئَتِهِ تَشْبِيهًا بِمَنْ يَقُولُ: كُنْ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ عَقِيبَ تَكْوِينِهِ، فَرَكَّبُوا مَجَازًا عَلَى مَجَازٍ وَلَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ الَّذِي يَأْتِي إِنْ كَانَ مَلَكًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنعام: ١٥٨] وَإِنْ كَانَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَلَكِ فَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: ١٥٨] .

الْعَاشِرُ: أَنَّ مَا ادَّعَوْا مِنَ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزِ ادِّعَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا، فَإِنَّ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ يَمْتَنِعُ تَقْدِيرُهُ.

[المثال الثاني اسم الرحمن ورحمة الله]

الْمِثَالُ الثَّانِي: مِمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ اسْمُهُ سُبْحَانَهُ (الرَّحْمَنُ) وَقَالُوا وَصْفُهُ بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ، قَالُوا: لِأَنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ هِيَ رِقَّةٌ تَعْتَرِي الْقَلْبَ، وَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَحَدُوا حَقِيقَةَ الرَّحْمَةِ فَقَالُوا إِنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَحِيمٍ بِعِبَادِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذَا النَّفْيِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: ٦٠] فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ اسْمِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ ذَاتَهُ

<<  <   >  >>