وَخُشُوعُهُ وَرَمْيُ بَصَرِهِ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا يُفْعَلُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ، فَهَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ.
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي إِحَاطَتَهُ، وَكَوْنَهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَأَنَّهُ الْبَاطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّهُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَنْفِي الْآخَرَ، وَإِنَّ إِحَاطَتَهُ بِخَلْقِهِ لَا تَنْفِي مُبَايَنَتَهُ لَهُمْ وَلَا عُلُوَّهُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ هُوَ فَوْقَ خَلْقِهِ مُحِيطٌ بِهِمْ مُبَايِنٌ لَهُمْ. إِنَّمَا تَنْشَأُ الشُّبْهَةُ الْفَاسِدَةُ عَنِ اعْتِقَادَيْنِ فَاسِدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَرْشُ كُرِيًّا وَاللَّهُ فَوْقَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُرِيًّا.
الِاعْتِقَادُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُرِيًّا صَحَّ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَهَذَانَ الِاعْتِقَادَانِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرْشَ كُرِيٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْأَفْلَاكِ فِي أَشْكَالِهَا كَمَا لَا يَجُورُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهَا فِي أَقْدَارِهَا وَلَا فِي صِفَاتِهَا، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِنَا، وَهَذَا يُزِيلُ كُلَّ إِشْكَالٍ وَيُبْطِلُ كُلَّ خَيَالٍ.
[المثال العاشر نداء الله ومناجاته وكلامه بحرف وصوت]
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِمَجَازٍ لَفْظُ (النِّدَاءِ الْإِلَهِيِّ) وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَكْرَارًا مُطَّرِدًا فِي مَحَالِّهِ مُتَنَوِّعًا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الْمَجَازِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ نَادَى الْأَبَوَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَنَادَى كَلِيمَهُ، وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ النِّدَاءَ فِي تِسْعَةِ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ فِيهَا عَنْ نِدَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يُقَيِّدَ النِّدَاءَ بِالصَّوْتِ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَإِذَا انْتَفَى الصَّوْتُ انْتَفَى النِّدَاءُ قَطْعًا، وَلِهَذَا جَاءَ إِيضَاحُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي بَلَّغَنَاهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَتَقْيِيدُهُ بِالصَّوْتِ إِيضَاحًا وَتَأْكِيدًا كَمَا قُيِّدَ التَّكْلِيمُ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " «يَا آدَمُ، فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ» "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute