للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ كِتَابَتِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كِتَابَةٌ مُفَصَّلَةٌ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْهَا، فَكِتَابَةُ اسْمِ الْقُرْآنِ فِي رَقٍّ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ كِتَابَةِ مَعَانِيهِ، وَإِذَا كُتِبَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ فِي كِتَابٍ لَمْ تَكُنِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ الْمَلْفُوظَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَادَّةِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ حَتَّى يُقَالَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ الْحُرُوفُ بِمَادَّتِهَا وَصُورَتِهَا وَحَلَّتْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَتَوَهَّمُ هَذَا سَلِيمُ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ.

[فصل سماع كلام الله مباشرة وبواسكة]

فَصْلٌ

وَكَلَامُ الرَّبِّ تَعَالَى، بَلْ كَلَامُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، تُدْرَكُ حُرُوفُهُ وَكَلِمَاتُهُ بِالسَّمْعِ تَارَةً وَبِالْبَصَرِ تَارَةً، فَالسَّمْعُ نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَالْمُطْلَقُ مَا كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا سَمِعَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ كَلَامَ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَمَا يَسْمَعُ جَبْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَالسَّمْعُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ، كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَمَاعِنَا لِكَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَمَا يُسْمَعُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَكَلَامُ غَيْرِهِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: ٦] مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: ٨٣] وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " «كَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إِذَا سَمِعُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحْمَنِ» " مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» ".

وَأَمَّا النَّظَرُ فَعَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ قَدْ يَكْتُبُهُ غَيْرُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَيَكُونُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ نَاظِرًا إِلَى الْحُرُوفِ وَالْمُلِمَّاتِ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْكَاتِبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ نَفْسُهُ كَتَبَ كَلَامَهُ، فِي نَظَرِ النَّاظِرِ إِلَى حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا بِيَدِهِ، كَمَا سَمِعَ مِنْهُ كَلِمَاتِهُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا، وَهَذَا كَمَا كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ احْتِجَاجِ آدَمَ مُوسَى، وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَجُمِعَ لِمُوسَى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَرَاهُ إِيَّاهُ بِكِتَابَتِهِ.

<<  <   >  >>