حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: ١٦٣] .
قَالَ الْجَارُودِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَنَا مُخَالِفٌ ابْنَ عُلَيَّةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كَلَامًا أَسْمَعَهُ مُوسَى.
وَقَدْ نَوَّعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ فِي إِطْلَاقِهَا عَلَيْهِ تَنْوِيعًا يَسْتَحِيلُ مَعَهُ نَفْيُ حَقَائِقِهَا، بَلْ لَيْسَ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ وَالْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ حَقِيقَةُ الْإِرْسَالِ تَبْلِيغُ كَلَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ انْتَفَتْ حَقِيقَةُ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَخْلُقُ بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢] فَإِذَا انْتَفَتْ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ عَنْهُ انْتَفَى الْخَلْقُ، وَقَدْ عَابَ اللَّهُ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهَا لَا تُكَلَّمُ وَلَا تُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَلَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَالْجَهْمِيَّةُ وَصَفُوا الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصِفَةِ هَذِهِ الْآلِهَةِ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِكَلَامِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَدَوَامِهِ الْمَثَلَ بِالْبَحْرِ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَأَشْجَارُ الْأَرْضِ كُلُّهَا أَقْلَامٌ، فَيَفْنَى الْمِدَادُ وَالْأَقْلَامُ وَلَا تَنْفَدُ كَلِمَاتُهُ، أَفَهَذَا صِفَةُ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ؟ فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ وَتَكْلِيمُهُ، وَخِطَابُهُ وَنِدَاؤُهُ، وَقَوْلُهُ وَأَمْرُهُ، وَنَهْيُهُ وَوَصِيَّتُهُ، وَعَهْدُهُ وَإِذْنُهُ، وَحُكْمُهُ وَأَنْبَاؤُهُ، وَأَخْبَارُهُ وَشَهَادَتُهُ كُلُّ ذَلِكَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَطَلَتِ الْحَقَائِقُ كُلُّهَا، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ إِنَّمَا حُقَّتْ بِكَلِمَاتِ تَكْوِينِهِ {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: ٨٢] فَمَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ.
[فصل مذاهب الناس في كلام الله]
[مذهب الاتحادية]
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَهَبَ الِاتِّحَادِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُ اللَّهِ: نَظْمُهُ وَنَثْرُهُ وَحَقُّهُ وَبَاطِلُهُ سِحْرُهُ وَكُفْرُهُ وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ وَالْهَجْرُ وَالْفُحْشُ، وَأَضْدَادُهُ كُلُّهُ غَيْرُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمِ بِهِ كَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute