الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ فِعْلًا لِلَّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ فِعْلٌ لِلْمَحَلِّ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ، إِذْ سَمِعَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَهُوَ فِعْلٌ لَهَا حَيْثُ سَمِعَ، فَهُوَ فِعْلُ الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّ فِيهِ.
وَالْفِرْقَةُ السَّادِسَةُ: يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَرَضٌ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِسْكَافِيِّ.
وَاخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ هَلْ يَبْقَى؟ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ: يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: لَا يَبْقَى إِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ ثُمَّ يُعْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ مِنْ فُرُوعِ الْأَصْلِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَالْفِطَرِ، مِنْ جَحْدِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَتَعْطِيلِ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَنَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ بِهِ، فَلَمَّا أَصَّلُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ وَصْفٌ وَلَا فِعْلٌ كَانَ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَطَرَدَ ذَلِكَ إِنْكَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، فَإِنَّ رُبُوبِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهِ فَعَّالًا مُدَبِّرًا مُتَصَرِّفًا فِي خَلْقِهِ، يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ وَيُرِيدُ وَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، فَإِذَا انْتَفَتْ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ انْتَفَتْ رُبُوبِيَّتُهُ، إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْكَلَامِ انْتَفَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَوَازِمُهَا وَذَلِكَ يَنْفِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ، فَطَرَدَ مَا أَصَّلُوهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِرَبِّ الْعَالَمِ وَلَا إِلَهٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.
[مذهب الكلابية]
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: مَذْهَبُ الْكُلَّابِيَّةِ، أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَأَنَّهُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حِكَايَةٌ لَهُ دَالَّةُ عَلَيْهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَعَانٍ فِي نَفْسِهِ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يُسْمَعُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ هِيَ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَوَّلُ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ كُلَّابٍ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الرَّبِّ، وَالْقُرْآنُ اسْمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
[مذهب الأشعري]
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ، وَهُوَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا لَهُ أَبْعَاضٌ وَلَا لَهُ أَجْزَاءٌ وَلَا عَيْنُ الْأَمْرِ وَعَيْنُ النَّهْيِ وَعَيْنُ الْخَبَرِ وَعَيْنُ الِاسْتِخْبَارِ، الْكُلُّ مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ عَيْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute