الدَّلِيلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَضْمُونِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ أَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ لَمْ تَزَلْ تَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ جَازِمِينَ بِالشَّهَادَةِ فِي تَصَانِيفِهِمْ وَخِطَابِهِمْ، فَيَقُولُونَ شَرَعَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ جَازِمِينَ بِهَا لَكَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا.
قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ جَمِيعُهُ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ، وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ النَّظَرِيُّ وَاقِعٌ بِهِ، خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ، وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ.
قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى هَذَا وَأَحْسَبُهُ قَوِيًّا ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ لَا يُخْطِئُ، وَالْأُمَّةُ فِي إِجْمَاعِهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ حُجَّةً مَقْطُوعًا بِهَا، وَكَثُرَ إِجْمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ نَفِيسَةٌ نَافِعَةٌ.
وَقَالَ إِمَامُ عَصْرِهِ الْمُجَمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمْعَانِيُّ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ لَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ.
[فصل الاستدلال بأحاديث الآحاد في العلم كالعمل]
فَصْلٌ
وَنَشْتَغِلُ الْآنَ بِالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْعِلْمُ، وَهَذَا رَأْيٌ سَمِعْتُ بِهِ الْمُبْتَدَعَةَ فِي رَدِّ الْأَخْبَارِ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ الثِّقَاتُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَسْنَدَهُ خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّتُهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ فِيمَا سَبِيلُهُ الْعِلْمُ، هَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتْقِنِينَ مِنَ الْقَائِمِينَ عَلَى السُّنَّةِ.
وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يُذْكَرُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالٍ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى أَخْبَرَ عَنْهُ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَكَانَ قَصْدُهُمْ مِنْهُ رَدَّ الْأَخْبَارِ، وَتَلَقَّفَهُ مِنْهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ قَدَمٌ ثَابِتٌ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مَقْصُودِهِمْ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَوْ أَنْصَفَ أَهْلُ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ لَأَقَرُّوا بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَإِنَّكَ تَرَاهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي طَرَائِقِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ يَسْتَدِلُّ كُلُّ فَرِيقٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute