الدَّلِيلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ يُثْبِتْ بِهِ الصَّحَابَةُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْفُرُوضَ، وَيُجْعَلْ ذَلِكَ دِينًا يُدَانُ بِهِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَادَ فِي الْفُرُوضِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ فَرْضَ الْجَدَّةِ وَجَعَلَهُ شَرِيعَةً مُسْتَمِرَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَبَرِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَطْ، وَجَعَلَ حُكْمَ ذَلِكَ الْخَبَرِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْفَرْضِ حُكْمَ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي إِثْبَاتِ فَرْضِ الْأُمِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَثْبَتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ دِيَةَ الْجَنِينِ وَجَعَلَهَا فَرْضًا لَازِمًا لِلْأُمَّةِ، وَأَثْبَتَ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِخَبَرِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَحْدَهُ، وَصَارَ ذَلِكَ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَثْبَتَ شَرِيعَةً عَامَّةً فِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَحْدَهُ، وَأَثْبَتَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ شَرِيعَةً عَامَّةً فِي سُكْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ وَحْدَهَا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَالُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الظَّنِّيَاتِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ جَمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا أَوْ غَلَطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَتِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى قَبُولِ الْخَطَأِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا قَدْحٌ فِي الدِّينِ وَالْأُمَّةِ.
الدَّلِيلُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَقْبَلُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَيَقْطَعُونَ بِمَضْمُونِهِ، فَقَبِلَهُ مُوسَى مِنَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ قَائِلًا لَهُ: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: ٢٠] ، فَجَزَمَ بِخَبَرِهِ وَخَرَجَ هَارِبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَبِلَ خَبَرَ بِنْتِ صَاحِبِ (مَدْيَنَ) لَمَّا قَالَتْ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: ٢٥] وَقَبِلَ خَبَرَ أَبِيهَا فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي وَتَزَوَّجَهَا بِخَبَرِهِ.
وَقَبِلَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ خَبَرَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: ٥٠] .
وَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ الْآحَادِ الَّذِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَهُ بِنَقْضِ عَهْدِ الْمُعَاهِدِينَ لَهُ وَغَزَاهُمْ بِخَبَرِهِمْ، وَاسْتَبَاحَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ، وَرُسُلُ اللَّهِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُرَتِّبُوا عَلَى تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَحْكَامَهَا، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا وَغَلَطًا، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَمْ تُثْبِتِ الشَّرَائِعَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُخْبِرُوا عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا وَخَطَأً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ كُلُّ عَالِمٍ مُسْتَبْصِرٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute