فَصْلٌ
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَدَّتْ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَتْ فِي بَابِ الصِّفَاتِ وَقَبِلَتْهَا إِذَا كَانَتْ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَنَحْوِهَا، وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] مُسْتَنَدًا لَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَلْبِيسًا مِنْهُمْ وَتَدْلِيسًا عَلَى مَنْ هُوَ أَعْمَى قَلْبًا مِنْهُمْ وَتَحْرِيفًا لِمَعْنَى الْآيَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ فَفَهِمُوا بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا فَهِمَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا تَقْتَضِي إِثْبَاتًا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ بِمَا لِلْمَخْلُوقِينَ.
[فصل المقام التاسع والعاشر أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة]
وَقَدْ عَرَفْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْمَقَامَ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، قَضِيَّةٌ كَاذِبَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ إِذَا أُخِذَتْ كُلِّيَّةً عَامَّةً، وَقَضِيَّةٌ لَا تُفِيدُ إِنْ أُخِذَتْ جُزْئِيَّةً أَوْ مُهْمَلَةً، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: كُلُّ خَبَرِ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ حَتَّى تَنْتَصِبُوا لِلرَّدِّ عَلَيْهِ كَأَنَّكُمْ فِي شَيْءٍ، وَكَأَنَّكُمْ قَدْ كَسَرْتُمْ عَدُوَّ الْإِسْلَامِ، فَسَوَّدْتُمُ الْأَوْرَاقَ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ حَتَّى كَذَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ كَذِبًا صَرِيحًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ (فَقَالَ) : مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ عِنْدَهُ فِي خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ.
فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ لَا يَسْتَحِي الْعَاقِلُ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْكَذِبِ عَلَى أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ عُذْرَ هَذَا وَأَمْثَالِهِ أَنَّهُمْ يَسْتَجِيزُونَ نَقْلَ الْمَذَاهِبِ عَنِ النَّاسِ بِلَازِمِ أَقْوَالِهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَازِمَ الْمَذْهَبِ فِي ظَنِّهِمْ مَذْهَبًا، كَمَا نَقَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُبَاهِتِينَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَقُولُ أَنَّهُ لَا يُرَى إِلَّا الْأَجْسَامُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ، فَلَا يَكُونُ مَرْئِيًّا عَلَى قَوْلِهِمْ، وَنَقَلَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِيَ بِهِ شَيْئًا إِلْزَامًا لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللَّهُ، بِهَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكَمَا نَقَلَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبُهْتَانِ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ إِلْزَامًا لَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ يَسْتَجِيزُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ مَا لَمْ يُخْبِرْ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، كَيْفَ لَا يَسْتَجِيزُ الْكَذِبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute