للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النَّاسِ فِي الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا، فَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ وَزَنَادِقَةُ الطَّبَائِعِيِّينَ وَالْفَلَاسِفَةُ: لَا حَقِيقَةَ لِآدَمَ وَلَا لِإِبْلِيسَ وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَزَلِ الْوُجُودُ هَكَذَا، وَلَا يَزَالُ نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، وَأُمَّةٍ بَعْدَ أُمَّةٍ، وَإِنَّمَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِانْفِعَالِ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِهَذَا الْبَشَرِ، وَهَذِهِ الْقُوَى هِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي الشَّرَائِعِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَاسْتَعْصَتِ الْقُوَى الْغَضَبِيَّةُ وَالشَّهَوَانِيَّةُ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالشَّيَاطِينِ، فَعَبَّرُوا عَنْ خُضُوعِ الْقُوَى الْخَيْرِيَّةِ الْفَاضِلَةِ بِالسُّجُودِ، وَعَبَّرَ عَنْ إِبَاءِ الْقُوَى الشِّرِّيرَةِ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَتَرْكِ السُّجُودِ، قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتْ تَرْكِيبَ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِسْكَانَ هَذِهِ الْقُوَى فِيهِ وَانْقِيَادَ بَعْضِهَا لَهُ وَإِبَاءَ بَعْضِهَا، فَهَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّرْكِيبِ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا، قَالُوا: وَبِهَذَا تَنْدَفِعُ الْأَسْئِلَةُ كُلُّهَا، وَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: لِمَ أَحْوَجَ الْإِنْسَانَ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَلِمَا أَحْوَجَهُ إِلَيْهَا، فَلِمَ جَعَلَهُ يَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَمْخُطُ؟ وَلِمَ جَعَلَهُ يَهْرَمُ وَيَمْرَضُ وَيَمُوتُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ لَوَازِمِ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ رَفَعَتِ الْقَوَاعِدَ مِنْ أَصْلِهَا وَأَبْطَلَتْ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَرَدَّتِ الْأَمْرَ إِلَى مُجَرَّدِ قُوًى نَفْسَانِيَّةٍ وَأُمُورٍ مَعْنَوِيَّةٍ.

وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ، وَمُنْكِرُو الْعِلَلِ وَالْحُكْمِ: هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ إِنَّمَا تَرِدُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ لِعِلَّةٍ أَوْ غَرَضٍ أَوْ لِغَايَةٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا عِلَّةَ لِفِعْلِهِ وَلَا غَايَةَ وَلَا غَرَضَ، بَلْ يَفْعَلُ بِلَا سَبَبٍ فَإِنَّمَا مَصْدَرُ مَفْعُولَاتِهِ مَحْضُ مَشِيئَتِهِ وَغَايَتُهَا مُطَابَقَتُهَا بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَجِيءُ فِعْلُهُ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْأَسْئِلَةُ فَاسِدَةٌ كُلُّهَا، إِذْ مَبْنَاهَا عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ مَنْ لَا تُعَلَّلُ أَفْعَالُهُ وَلَا يُوَصَفُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ عَقْلِيَّيْنِ، بَلِ الْحَسَنُ مَا فَعَلَهُ أَوْ مَا يَفْعَلُهُ فَكُلُّهُ حَسَنٌ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] ، قَالُوا: وَالْقُبْحُ وَالظُّلْمُ هُوَ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَمَّا تَصَرُّفُ الْمَلِكِ الْحَقِّ فِي مُلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ حِجْرِ حَاجِرٍ أَوْ أَمْرِ آمِرٍ أَوْ نَهْيِ نَاهٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ظُلْمًا وَلَا قَبِيحًا، فَرَفَعَ هَؤُلَاءِ الْأَسْئِلَةَ مِنْ أَصْلِهَا وَالْتَزَمُوا لَوَازِمَ هَذَا الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَقْبُحُ مِنْهُ مُمْكِنٌ.

وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: هَذَا لَا يَرِدُ عَلَى أُصُولِنَا، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى أُصُولِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَطَاعَتُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَإِيمَانُهُمْ وَكُفْرُهُمْ، وَأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَعَلِمَهُ مِنْهُمْ وَخَلَقَهُمْ لَهُ، فَخَلَقَ أَهْلَ الْكُفْرِ لِلْكُفْرِ، وَأَهْلَ الْفُسُوقِ لِلْفُسُوقِ، قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَشَاءَهُ مِنْهُمْ وَخَلَقَهُ فِيهِمْ، فَهَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَارِدَةٌ

<<  <   >  >>