هُوَ كَالْقَبْوِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْقَبْوَ يَحْمِلُ مَا لَا يَحْمِلُ السَّطْحُ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْحُذَّاقُ لِكُلِّ مَنْ كَلَّ بَصَرُهُ أَنْ يُدِيمَ النَّظَرَ إِلَى إِجَّانَةٍ خَضْرَاءَ مَمْلُوءَةٍ مَاءً اسْتِنْبَاطًا مِنْ حِكْمَةِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ فِي لَوْنِ السَّمَاءِ، فَإِنَّ لَوْنَهَا أَشَدُّ الْأَلْوَانِ مُوَافَقَةً لِلْبَصَرِ، فَجَعَلَ أَدِيمَهَا بِهَذَا اللَّوْنِ لِيُمْسِكَ الْأَبْصَارَ وَلَا يَنْكَأُ فِيهَا بِطُولِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا، وَإِذَا فَكَّرْتَ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا لِإِقَامَةِ دَوْلَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَوْلَا طُلُوعُهَا لَبَطَلَ أَمْرُ هَذَا الْعَالَمِ، فَكَمْ فِي طُلُوعِهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْحَيَوَانِ لَوْ أُمْسِكَتْ عَنْهُ وَجُعِلَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ سَرْمَدًا وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةً عَلَيْهِ؟ فَبِأَيِّ نُورٍ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ؟ وَكَيْفَ كَانَتْ تَنْضُجُ ثِمَارُهُمْ، وَتَكْمُلُ أَقْوَاتُهُمْ وَتَعْتَدِلُ صُوَرُهُمْ، فَالْحِكَمُ فِي طُلُوعِهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَخْتَفِيَ أَوْ تُحْصَى، وَلَكِنْ تَأَمَّلِ الْحِكْمَةَ فِي غُرُوبِهَا، فَلَوْلَا غُرُوبُهَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَيَوَانِ هُدُوءٌ وَلَا قَرَارٌ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْهُدُوءِ وَالرَّاحَةِ، وَأَيْضًا لَوْ دَامَتْ عَلَى الْأَرْضِ لَاشْتَدَّ حَرُّهَا بِدَوَامِ طُلُوعِهَا عَلَيْهَا، فَاحْتَرَقَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ وَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَنْ جَعَلَهَا تَطْلُعُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بِمَنْزِلَةِ سِرَاجٍ يُرْفَعُ لِأَهْلِ الدَّارِ مَلِيًّا لِيَقْضُوا مَأْرَبَهُمْ ثُمَّ يَغِيبُ عَنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ لِيَقَرُّوا وَيَهْدَءُوا، وَصَارَ ضِيَاءُ النَّهَارِ وَحَرَارَتُهُ، وَظَلَامُ اللَّيْلِ وَبَرْدُهُ، عَلَى تَضَادِّهِمَا وَمَا فِيهِمَا مُتَظَاهِرَيْنِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ وَقِوَامُهُ.
ثُمَّ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ لِلشَّمْسِ ارْتِفَاعًا وَانْحِطَاطًا لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ قِيَامِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَفِي زَمَنِ الشِّتَاءِ تَفُورُ الْحَرَارَةُ فِي الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فِيهَا مَوَادُّ النَّارِ وَيَغْلُظُ الْهَوَاءُ بِسَبَبِ الرَّدِّ فَيَصِيرُ مَادَّةً لِلسَّحَابِ، فَيُرْسِلُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الرِّيحَ الْمُثِيرَةَ فَتَنْشُرُهُ قَزَعًا ثُمَّ يُرْسِلُ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ حَتَّى يَصِيرَ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُرْسِلُ عَلَيْهِ الرِّيحَ اللَّاقِحَةَ الَّتِي فِيهَا مَادَّةُ الْمَاءِ فَتُلَقِّحُهُ كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى فَيَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ وَقْتِهِ، فَإِذَا كَانَ بُرُوزُ الْحَمْلِ وَانْفِصَالُهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الرِّيحَ الذَّارِيَةَ فَتَذْرُوهُ وَتُفَرِّقُهُ فِي الْهَوَاءِ لِئَلَّا يَقَعَ صَبَّةً وَاحِدَةً فَيَهْلِكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ وَمَا أَصَابَهُ وَيَقِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَإِذَا أَسْقَى مَا أُمِرَ بِسَقْيِهِ وَفَرَغَتْ حَاجَتُهُمْ مِنْهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الرِّيَاحَ السَّائِقَةَ فَتَسُوقُهُ وَتُزْجِيهِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَأَرْضٍ أُخْرَى مُحْتَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاءَ الرَّبِيعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute