فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ التَّمَدُّحُ بِتَرْكِ مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَقَدْ حَمِدَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ وَتَمَدَّحَ بِعَدَمِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ الشَّرِيكِ وَالْوَلِيِّ مِنَ الذُّلِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ، فَهَكَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَنَزُّهِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا غَيْرَ مَقْدُورٍ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مُحَالٌ لِذَاتِهِ فِي نَفْسِهِ الْأَمْرِ وَبَيْنَ مَا هُوَ مُمْكِنٌ أَوْ وَاقِعٌ لَكِنْ يَسْتَحِيلُ وَصْفُ الرَّبِّ بِهِ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ لَا يُتَمَدَّحُ بِهِ، بَلِ الْعَبْدُ لَا يَرْضَى أَنْ يَمْدَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَا يَتَمَدَّحُ عَاقِلٌ بِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَلَا يَجْعَلُ الشَّيْءَ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ لَكِنْ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ مَنْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ بِهِ كَالْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ، فَإِنَّ نَفْيَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِخَلْقِهِ، وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ لِمُنَافَاتِهِ لِكَمَالِهِ، كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ السُّنَّةِ وَالنَّوْمِ وَاللُّغُوبِ وَالنِّسْيَانِ وَالْعَجْزِ وَالْأَكْلِ وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَاقِعٌ مِنَ الْعِبَادِ، فَكَانَ فِي تَنْزِيهِهِ عَنْهُ مَا يُبَيِّنُ انْفِرَادَهُ بِالْكَمَالِ وَعَدَمِ مُشَابَهَتِهِ لِخَلْقِهِ، بِخِلَافِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي نَفْسِهِ، كَجَعْلِ الْمَخْلُوقِ خَالِقًا، وَجَعْلِ الْخَالِقِ مَخْلُوقًا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَمَدَّحُ سُبْحَانَهُ بِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَا يَتَمَدَّحُ بِهِ مَخْلُوقٌ عَنِ الْخَالِقِ.
قِيلَ: إِنَّ مَا تَمَدَّحَ بِهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ الَّتِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَسَلْبُ فِعْلِهِ الْمُسْتَحِيلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا هُوَ كَمَالٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالًا، فَإِذَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ مُشَارِكًا لَهُ فِي هَذَا الْمَدْحِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ وَلَا يَمُوتُ وَلَا يَنْسَى وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلِ مَا لَوْ تُرِكَ كَانَ تَرْكُهُ نَقْصًا، وَبِتَرْكِ مَا لَوْ فَعَلَهُ كَانَ فِعْلُهُ نَقْصًا، وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ الْجَبْرِيَّةِ، وَالِاعْتِبَارُ عِنْدَهُمْ بِكَوْنِ الْمَفْعُولِ وَالْمَتْرُوكِ مُمْكِنًا، فَقَابَلَتْهُمُ الْقَدَرِيَّةُ فَجَعَلُوا الظُّلْمَ الَّذِي تُنَزَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ مِثْلَ الظُّلْمِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ، وَشَبَّهُوا فِعْلَهُ بِفِعْلِ عَبِيدِهِ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْجَبْرِيَّةُ بِأَنْوَاعِ الْمُنَاقَضَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ وَكَانَ غَايَةَ مَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاقَضَةُ الْآخَرِ وَإِفْسَادُ قَوْلِهِ، فَكَفُّوا أَهْلَ السُّنَّةِ مَئُونَتَهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute