فَتَأَمَّلْ مَا تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ مِنَ الْعَدْلِ وَاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعْذِيبِكُمْ، وَلَا يُعَذِّبُكُمْ تَشَفِّيًا وَلَا لِحَاجَةِ بِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يُعَذِّبُ سُدًى بَاطِلًا بِلَا مُوجِبٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَكِنْ لَمَّا تَرَكْتُمُ الشُّكْرَ وَالْإِيمَانَ وَاسْتَبْدَلْتُمْ بِهِ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَجُحُودَ حَقِّهِ عَلَيْكُمْ وَإِنْكَارَ كَمَالِهِ، وَأَبْدَلْتُمْ نِعْمَتَهُ كُفْرًا، أَحْلَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ وَعُقُوبَتَهُ وَسَعَيْتُمْ بِجُهْدِكُمْ إِلَى دَارِ الْعُقُوبَةِ سَاعِينَ فِي أَسْبَابِهَا، بَلْ دُعَاتُهُ وَرُسُلُهُ تُمْسِكُ بِأَيْدِيكُمْ، وَحُجَزِكُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَحَلِّ عَذَابِهِ، وَأَنْتُمْ تُجَاذِبُونَهُمْ أَشَدَّ الْمُجَاذَبَةِ وَتَتَهَافَتُونَ فِيهَا، وَلَمْ يَكْفِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى بَغَيْتُمْ طَرِيقَ رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ عِوَجًا، وَصَدَدْتُمْ عَنْهَا وَنَفَّرْتُمْ عِبَادَهُ عَنْهَا بِجُهْدِكُمْ، وَآثَرْتُمْ مُوَالَاةَ عَدُوِّهِ عَلَى مُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ، فَتَحَيَّزْتُمْ إِلَى أَعْدَائِهِ مُتَظَاهِرِينَ عَلَيْهِ، سَاعِينَ فِي إِبْطَالِ دَعَوْتِهِ الْحَقِّ، فَمَا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ بِعَذَابِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ أَوْقَعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِيهِ بِمَا ارْتَكَبْتُمْ.
وَهَذَا الْمَسْلَكُ ظَاهِرُ الْمُصْلِحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ فِي حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ فَوَّتُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَصْلَحَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: ١١٨] ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدُوهُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَيُقِرُّوا بِهِ وَلَا يَبْقَى عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَلَا شَكٌّ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ الْحَقَّ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: ١٩] كَيْفَ عَدَلَ فِيهِمْ كُلَّ الْعَدْلِ بِأَنْ نَسِيَهُمْ كَمَا نَسَوْهُ، وَأَنْسَاهُمْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ وَنَعِيمَهَا وَكَمَالَهَا، وَأَسْبَابَ لَذَّاتِهَا وَفَرَحِهَا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِسْيَانِ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، الْمُتَحَبِّبِ إِلَيْهِمْ بِآلَائِهِ، فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِنِسْيَانِ ذِكْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ شُكْرِهِ، فَعَدَلَ فِيهِمْ بِأَنْ أَنْسَاهُمْ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ فَعَطَّلُوهَا، وَلَيْسَ بَعْدَ تَعْطِيلِ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ إِلَّا الْوُقُوعَ فِيمَا تَفْسَدُ بِهِ وَتَتَأَلَّمُ بِفَوْتِهِ غَايَةَ الْأَلَمِ.
وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فِي غُنْيَةٍ عَنْ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ تَعْذِيبَهُمْ غَيْرُ مَصْلَحَتِهِمْ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ فِي تَعْذِيبِهِمْ، بَلْ أَرْسَلُوا الْقَوْلَ بِذَلِكَ إِرْسَالًا، وَكَأَنَّهُمْ حَامُوا حَوْلَ أَمْرٍ لَمْ يُمْكِنْهُمْ وُرُودُهُ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا بِهِ مُشْرِكِينَ وَلِحَقِّهِ جَاحِدِينَ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا خُلِقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي هِيَ دِينُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عُرِضَ لَهُمْ مَا نَقَلَهُمْ عَنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute