للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: ٢٨] فَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ فَقَالُوا: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: ٢٧ - ٢٨] ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَقَبْلَ أَنْ تُذِيبَ لُحُومَهُمْ وَنُفُوسَهُمُ الَّتِي نَشَأَتْ عَلَى الْكُفْرِ، فَالْخَبَثُ بَعْدُ كَامِنٌ فِيهَا، فَلَوْ رُدُّوا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، وَالْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ تِلْكَ اللُّحُومَ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَتُنْضِجُ تِلْكَ الْجُلُودَ الَّتِي بَاشَرَتْ مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ الَّتِي أَشْرَكَتْ بِهِ وَعَبَدَتْ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَتَسْلِيطُ النَّارِ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ غَايَةِ الْحِكْمَةِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْمَسْأَلَةُ حَقَّهَا وَأَخَذَتِ الْعُقُوبَةُ مِنْهُمْ مَأْخَذَهَا وَعَادُوا إِلَى مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ، وَزَالَ ذَلِكَ الْخَبَثُ وَالشَّرُّ الطَّارِئُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حِينَئِذٍ حَكَمٌ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ أَبَدِيَّةَ النَّارِ كَأَبَدِيَّةِ الْجَنَّةِ، إِمَّا أَنْ يَتَلَقَّى الْقَوْلَ بِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنَ السُّنَّةِ أَوْ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوْ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَمِيعُ مُنْتَفٍ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِهَا وَبَقَاءِ أَبَدِيَّتِهَا؟ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ أَرَوْنَا ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَجَعَلُوا الْقَوْلَ بِفَنَائِهَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَاهُ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ كَمَا يُحْكَى الْإِجْمَاعُ كَثِيرًا عَلَى مَا الْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ غَيْرُ خَفِيٍّ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذِهِ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ كَثِيرًا عَلَى مَا الْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ عَلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَزَادَ عَلَى مِائَتَيْ مَوْضِعٍ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ أَرَادَ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ، فَنَعَمِ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَمَّا قَالَ السَّلَفُ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ظَنَّ مَنْ تَلَقَّى مِنْهُمْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي الدَّارَيْنِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْقَائِهِمَا أَبَدًا، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، قَالُوا: وَهَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا بِدَايَةَ لَهَا

<<  <   >  >>