بِمُقَابَلَتِهِ بِالْمَعْصِيَةِ وَمُنَازَعَتِهِ سُبْحَانَهُ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ، فَاسْتَخْرَجَ أَمْرُهُ مِنْكَ الْكُفْرَ الْخَفِيَّ وَالدَّاءَ الدَّوِيَّ، وَقَامَ عُذْرُهُ فِي نُفُوسِ أَوْلِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ بِمَا أَصَابَكَ مِنْ لَعْنَتِهِ وَجَرَى عَلَيْكَ مِنْ نَكَالِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَصِرْتَ فِي ذَلِكَ إِمَامًا لِمَنْ كَانَ حَالُهُ حَالَكَ، فَهَذَا مِنْ بَعْضِ حِكَمِهِ: فِي أَمْرِهِ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَذَّبَهُ وَطَرَدَهُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهِرَ غَيْرُهُ، لَوَجَدَ هُوَ وَغَيْرُهُ لِلْقَوْلِ سَبِيلًا، لَوْ أَمَرْتَنِي لَأَطَعْتُكَ، وَلَكِنْ عَذَّبْتَنِي قَبْلَ أَنْ تُجَرِّبَنِي، وَلَوْ جَرَّبْتَنِي لَوَجَدَتْنِي سَامِعًا مُطِيعًا، بَلْ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ بِمَعْصِيَتِهِ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى إِذَا اسْتَحْكَمَ إِبَاؤُهُ وَمَعْصِيَتُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْقَوْلِ فِيهِ مَطْمَعٌ، وَلَا لِلْمَوْعِظَةِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَأَيِسَ مِنْهُ، حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَظَهَرَ عُذْرُ مَنْ عَذَّبَهُ لِلْخَلِيقَةِ، وَحَمْدُهُ وَكَمَالُهُ الْمُقَدَّسُ.
قَالَ مُخْتَصِرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوْصِلِيِّ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَأَصْوَبُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: وَإِذْ أَبَيْتُ السُّجُودَ لَهُ فَلِمَ طَرَدْتَنِي وَذَنْبِي أَنِّي لَمْ أَرَ السُّجُودَ لِغَيْرِهِ.
فَيُقَالُ لِعَدُوِّ اللَّهِ: هَذَا تَلْبِيسٌ إِنَّمَا يَرُوجُ عَلَى أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ مِنْ أَتْبَاعِكَ، حَيْثُ أَوْهَمْتَهُمْ أَنَّكَ تَرَكْتَ السُّجُودَ لِآدَمَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَتَوْحِيدًا لَهُ، وَصِيَانَةً لِعِزَّتِهِ أَنْ تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ، فَجَازَاكَ عَلَى هَذَا الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ بِغَايَةِ الْإِهَانَةِ وَالطَّرْدِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِكَ، وَلَمْ تَعْتَذِرْ بِهِ إِلَى رَبِّكَ، إِنَّمَا كَانَ الْحَامِلُ لَكَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ الْكِبْرَ وَالْكُفْرَ وَالنَّخْوَةَ الْإِبْلِيسِيَّةَ، وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِكَ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ لِلَّهِ وَحِفْظُ جَانِبِ التَّوْحِيدِ لَحَمَلَكَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَتِهِ.
وَهَلِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ إِلَّا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ؟ وَقَدْ قَامَ لَكَ مِنْ إِخْوَانِكَ أَصْحَابٌ يُحَامُونَ عَنْكَ وَيُخَاصِمُونَ رَبَّهُمْ فِيكَ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْكَ اعْتِذَارًا عَنْكَ وَتَظْلِيمًا مِنْ رَبِّكَ، كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ تَفْلِيسِ إِبْلِيسَ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهِ مَا تَرْعَدُ مِنْهُ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَرَقًا وَتَعْظِيمًا لِلَّهِ مِنَ الِاعْتِذَارِ عَنْكَ، وَأَنَّ مَا فَعَلْتَهُ هُوَ وَجْهُ الصَّوَابِ، إِذْ غِرْتَ عَلَى التَّوْحِيدِ أَنْ يَحْمِلَكَ عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ رَأْسَ الْمُحِبِّينَ قَائِدَ الْمُطِيعِينَ وَلَكِنْ:
إِذْ كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيلَ حَظٍّ فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوبُ وَيَا لَلَّهِ، لَقَدْ قَالَ هَذَا الْخَلِيفَةُ مِنْكَ وَالْوَلِيُّ لَكَ مَا لَمْ تَسْتَحْسِنْ أَنْ تَقُولَهُ لِرَبِّكَ وَلَا تَظُنَّهُ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: وَإِذْ قَدْ أَبْعَدَنِي وَطَرَدَنِي فَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى آدَمَ حَتَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute