للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شَرْطِ الْمَجَازِ الْوَضْعُ، فَإِنَّ الْوَضْعَ فِي كَلَامِكُمْ مَا يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيهَا، ثُمَّ وُضِعَ لِمَعَانٍ أُخَرَ بَعْدَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بَعْدَهُ وَالْوَضْعِ الثَّانِي وَالِاسْتِعْمَالِ بَعْدَهُ، وَلَا تَتِمُّ لَكُمْ دَعْوَى الْمَجَازِ إِلَّا بِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعِ، وَلَيْسَ مَعَكُمْ وَلَا مَعَ غَيْرِكُمْ سِوَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى.

وَأَمَّا إِنَّهُمْ وَضَعُوهُ لِمَعْنًى ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ وَضَعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ، فَدَعْوَى ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ يُمْكِنُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَوْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الْوَحْيَ وَخَبَرَ الصَّادِقِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ صِدْقُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ دَعْوَاهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا وَتَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظَ بِعَيْنِهَا فِي مَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِ الْمَعَانِي الْأُوَلِ، لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا، وَقَالُوا: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ حَقِيقَةٌ تِلْكَ الْمَعَانِي مَجَازٌ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمٍ الْجَبَائِيِّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مُجَاهَرَةٌ بِالْكَذِبِ، وَقَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَكُمْ: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ، فَلَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ بِمَجَازٍ، فَتَكُونُ الْأَلْفَاظُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، هَذَا وَإِنِ اسْتَلْزَمُوهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَصْلًا فَاسِدًا، وَمُسْتَلْزِمٌ لِأَمْرٍ فَاسِدٍ، أَمَّا الْأَصْلُ الْفَاسِدُ فَهُوَ أَنَّ هَاهُنَا وَضْعًا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ اطَّرَدَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُعْرَفُ تَجَرُّدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ بَلْ تَجَرُّدُهَا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ مُحَالٌ، وَهُوَ كَتَجَرُّدِ الْحَرَكَةِ عَنِ الْمُتَحَرِّكِ، نَعَمْ إِنَّمَا تَتَجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ وَهِيَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ أَلْفَاظًا وَإِنَّمَا هِيَ تُقَدَّرُ أَلْفَاظًا لَا حُكْمَ لَهَا، وَثُبُوتُهَا فِي الرَّسْمِ مَسْبُوقٌ بِالنُّطْقِ بِهَا، فَإِنَّ الْخَطَّ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

وَأَمَّا اسْتِلْزَامُهُ الْأَمْرَ الْفَاسِدَ فَإِنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ الْوَضْعُ عَنِ اسْتِعْمَالٍ جَازَ أَنْ يُوضَعَ

<<  <   >  >>