فَالْمَدْلُولُ إِنْ تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَانَ حَقِيقَةً، وَكَانَ غَيْرُ الْمُتَبَادِرِ مَجَازًا، فَإِنَّ الْأَسَدَ إِذَا أُطْلِقَ تَبَادَرَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ الْمُفْتَرِسُ دُونَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، فَهَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى بَاطِلَةٍ وَهُوَ تَجْرِيدُ اللَّفْظِ عَنِ الْقَرَائِنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالنُّطْقِ بِهِ وَحْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ التَّجَرُّدِ، وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَكُمْ فِي الْوَهْمِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِدُونِ الْقَيْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يُنْعَقُ بِهَا لَا تُفِيدُ فَائِدَةً، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَرْكِيبُهُ مَعَ غَيْرِهِ تَرْكِيبًا إِسْنَادِيًّا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ كُلِّ تَرْكِيبٍ بِحَسْبِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مَا لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَخِيرِ.
فَإِذَا قُلْتَ: هَذَا الثَّوْبُ خِطْتُهُ لَكَ بِيَدِي، تَبَادَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَدَ آلَةُ الْخِيَاطَةِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا قُلْتَ: لَكَ عِنْدِي يَدُ اللَّهِ يَجْزِيكَ بِهَا، تَبَادَرَ مِنْ هَذَا النِّعْمَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُ الْإِعْطَاءَ وَهُوَ بِالْيَدِ عَبَّرَ عَنْهُ بِهَا، لِأَنَّهَا آلَةٌ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، وَهَذَا التَّرْكِيبِ، فَمَا الَّذِي صَيَّرَهَا حَقِيقَةً فِي هَذَا، مَجَازًا فِي الْآخَرِ؟ .
فَإِنْ قُلْتَ: لِأَنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ يَدٍ تَبَادَرَ مِنْهَا الْعُضْوُ الْمَخْصُوصُ، قِيلَ: لَفْظَةُ يَدٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ يُنْعَقُ بِهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا الْبَتَّةَ حَتَّى تُقَيِّدَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَمَعَ التَّقْيِيدِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ لَا يَتَبَادَرُ سِوَاهُ، فَتَكُونُ الْحَقِيقَةُ حَيْثُ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنًى يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، كَذَلِكَ أَسَدٌ لَا تُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُعْلَمُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ حَتَّى إِذَا قَالَ زَيْدٌ أَسَدٌ، أَوْ رَأَيْتُ أَسَدًا يُصَلَّى، أَوْ فُلَانٌ افْتَرَسَهُ الْأَسَدُ فَأَكَلَهُ، أَوِ الْأَسَدُ مَلِكُ الْوُحُوشِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، عُلِمَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَتَبَادَرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ وَالتَّرْكِيبِ، فَلَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يُصَلِّي، إِلَّا رَجُلًا شُجَاعًا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً.
فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَادَرُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهَا يَتَبَادَرُ مَعْنَاهَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ، قِيلَ لَكُمْ: عَادَ الْبَحْثُ جَذِعًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَلَا تَرْكِيبٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِنَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّخَاطُبِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا عِنْدَ التَّرْكِيبِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَسْبَقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا الَّذِي نَعْنِي بِالْحَقِيقَةِ، مِثَالُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ أَسَدًا، تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ الْحَيَوَانُ الْمَخْصُوصُ، دُونَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، هَذَا غَايَةُ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرْقِ وَهُوَ أَقْوَى مَا عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُهُ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ تَخْتَلِفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute