لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حَقِيقَةٌ، وَجَنَاحُ السَّفَرِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَجَنَاحُ الذُّلِّ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ لِلذُّلِّ جَنَاحٌ، قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ جَنَاحُ رِيشٍ، وَلَهُ جَنَاحٌ مَعْنَوِيٌّ يُنَاسِبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالْمَالَ وَالْمَاءَ لَيْسَ لَهُ رَأْسُ الْحَيَوَانِ وَلَهَا رَأْسٌ بِحَسَبِهَا، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُضَافَةِ كَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
فَيَدُ الْبَعُوضَةِ حَقِيقَةٌ وَيَدُ الْفِيلِ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ مَجَازًا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ، وَلَيْسَتِ الْيَدُ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْبَعُوضِ وَحَيَاتُهَا وَقُوَّتُهَا حَقِيقَةٌ، وَإِرَادَةُ الْمَلِكِ وَقُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ حَقِيقَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَسَدِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَبَيْنَ الْبَلِيدِ وَالْحِمَارِ أَعْظَمُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي بَيْنَ الْبَعُوضَةِ وَالْفِيلِ وَبَيْنَ الْبَعُوضَةِ وَالْمَلِكِ، فَإِذَا جَعَلْتُمُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً هُنَاكَ لِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فَهَلَّا جَعَلْتُمُوهُ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِكُمْ وَتَفْرِيقِكُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَسَلْبِكُمُ الْحَقِيقَةَ عَمَّا هُوَ أَوْلَى بِهَا.
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ الْمَجَازَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَالْحَقِيقَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ، وَمُرَادُكُمْ أَنَّ إِفَادَةَ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنَاهَا الْإِفْرَادِيِّ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالْقَرِينَةِ، وَإِفَادَةَ الْمَجَازِ لِمَعْنَاهُ الْإِفْرَادِيِّ مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ.
فَيُقَالُ لَكُمْ: اللَّفْظُ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعَقُ بِهَا، فَقَوْلُكَ: تُرَابُ مَاءٍ حَجْرُ رَجُلٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: طَقْ غَاقْ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَصْوَاتِ، فَلَا يُفِيدُ اللَّفْظُ وَيَصِيرُ كَلَامًا إِلَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُسَمَّى حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ وَمَا يُسَمَّى مَجَازًا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ مُنْكِرِي الْمَجَازِ وَمُثْبِتِيهِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالْمَجَازِ احْتِيَاجَ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فِي إِقَامَةِ الْمَعْنَى إِلَى قَرِينَةٍ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ اللُّغَاتُ كُلُّهَا مَجَازًا، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الْقَرَائِنِ وَبَعْضٍ كَانَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا مَحْضًا لَا مَعْنَى لَهُ.
وَإِنْ قُلْتُمُ الْقَرَائِنُ نَوْعَانِ: لَفْظِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ، فَمَا تَوَقَّفَ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى الْقَرَائِنِ الْعَقْلِيَّةِ فَهُوَ الْمَجَازُ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ فَهُوَ الْحَقِيقَةُ.
قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الْمُجَرَّدَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إِفَادَةِ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ بِالنَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَحِينَئِذٍ فَيَفْهَمُ الْعَقْلُ الْمُرَادَ بِوَاسِطَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْفِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، الثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَرَادَ إِفْهَامَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَحْصُلُ الْفَهْمُ الْمُرَادُ الْمُتَكَلَّمُ، وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُجَرَّدَةُ بِدُونِ اللَّفْظِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مُرَادِ الْحَيِّ فَتِلْكَ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute