للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ مَا خَدَعَ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى انْصَرَفُوا، وَكَذَلِكَ خِدَاعُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ لِامْرَأَتِهِ وَأَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» " وَجَزَاءُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، مُسْتَحْسَنٌ فِي جَمِيعِ الْعُقُولِ، وَلِهَذَا كَادَ سُبْحَانَهُ لِيُوسُفَ حِينَ أَظْهَرَ لِإِخْوَتِهِ مَا أَبْطَنَ خِلَافَهُ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كَيْدِهِمْ لَهُ مَعَ أَبِيهِ، حَيْثُ أَظْهَرُوا لَهُ أَمْرًا وَأَبْطَنُوا خِلَافَهُ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْدَلِ الْكَيْدِ، فَإِنَّ إِخْوَتَهُ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَادَّعَوْا أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَخِيهِمْ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ سَرَقَ الصُّوَاعَ وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ بِذَلِكَ الْكَيْدِ، حَيْثُ كَانَ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً، وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا ظَالِمًا لِأَخِيهِ الَّذِي لَمْ يَكِدْهُ، بَلْ كَانَ إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَإِكْرَامًا لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقُ ذَلِكَ مُسْتَهْجَنَةً، لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ بِالْآخِرَةِ بَرَاءَتُهُ وَنَزَاهَتُهُ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي اتِّصَالِهِ بِيُوسُفَ وَاخْتِصَاصِهِ بِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَيْدُ إِيذَاءَ أَبِيهِ وَتَعْرِيضَهُ لِأَلَمِ الْحُزْنِ عَلَى حُزْنِهِ السَّابِقِ، فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ كَانَتْ لِيَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ؟ فَيُقَالُ: هَذَا مِنِ امْتِحَانِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَيُوسُفُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ كَرَامَتَهُ كَمَّلَ لَهُ مَرْتَبَةَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى لِيَصْبِرَ فَيَنَالَ الدَّرَجَةَ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى حَسَبِ الِابْتِلَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا تَكْمِيلُ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ بِاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ بِحَبِيبِهِ بَعْدَ الْفِرَاقِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ إِحْسَانِ الرَّبِّ تَعَالَى أَنْ يُذِيقَ عَبْدَهُ مَرَارَةَ الْكَسْرِ قَبْلَ حَلَاوَةِ الْجَبْرِ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْتَلِيَهُ بِضِدِّهَا، كَمَا أَنَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُكَمِّلَ لِآدَمَ نَعِيمَ الْجَنَّةِ أَذَاقَهُ مَرَارَةَ خُرُوجِهِ مِنْهَا، وَمُقَاسَاةَ هَذِهِ الدَّارِ الْمَمْزُوجِ رَخَاؤُهَا بِشِدَّتِهَا، فَمَا كَسَرَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا لِيَجْبُرَهُ، وَلَا مَنَعَهُ إِلَّا لِيُعْطِيَهُ، وَلَا ابْتَلَاهُ إِلَّا لِيُعَافِيَهُ، وَلَا أَمَاتَهُ إِلَّا لِيُحْيِيَهُ، وَلَا نَغَّصَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا إِلَّا لِيُرَغِّبَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا ابْتَلَاهُ بِجَفَاءِ النَّاسِ إِلَّا لِيَرُدَّهُ إِلَيْهِ.

فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَمُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا لَا تُمْدَحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ وَالْخِدَاعُ لَا يُذَمُّ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا يُذَمُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ الْإِرَادَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاكِرَ الْمُخَادِعَ يَجُورُ وَيَظْلِمُ بِفِعْلِ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ.

إِذْ عَرَفَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ مُطْلَقًا، وَلَا ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَمَنْ ظَنَّ مِنَ الْجُهَّالِ الْمُصَنِّفِينَ

<<  <   >  >>