يَتَعَيَّنُ وَلَا يُصَارُّ إِلَى الْقَبُولِ بِهِ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ اسْمًا لِكُلِّ وَاسِعٍ، فَلَمَّا كَانَ خَطْوُ الْفَرَسِ وَاسِعًا سُمِّيَ بَحْرًا، وَقَدْ تَقَيَّدَ الْكَلَامُ بِمَا عَيَّنَ مُرَادَ قَائِلِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ وَالتَّقْيِيدُ مُعَيَّنٌ لِمَقْصُودِهِ، وَأَنَّهُ بَحْرٌ فِي جَرْيِهِ لَا أَنَّهُ بَحْرُ مَاءٍ نُقِلَ إِلَى الْفَرَسِ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا تَسْمِيَةَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ فَقَالُوا لِلْفَرَسِ: جَوَادٌ وَسَابِحٌ وَطَرْفٌ، وَلَوْ عُرِّيَ الْكَلَامُ مِنْ سِيَاقٍ يُوَضِّحُ الْحَالَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ مَا تَأْبَاهُ لُغَتُهُمْ.
أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ رَأَيْتُ بَحْرًا وَأَنْتَ تُرِيدُ الْفَرَسَ، أَوْ رَأَيْتُ أَسَدًا وَأَنْتَ تُرِيدُ الرَّجُلَ الشُّجَاعَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ، فَكَانَ بِالْأَلْغَازِ وَالتَّلْبِيسِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْمَائِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّفُونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ بِلَا عِلْمٍ يُقَدِّرُونَ كَلَامًا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ ثُمَّ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ الْحُكْمَ إِلَى الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَعْمَلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالسِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ الْكَلَامُ الْمُقَدَّرُ مُجَرَّدٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَامَ يَلْزَمُ فِي تَجَرُّدِهِ لَوَازِمَ لَا تَكُونُ لَهُ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَنَظِيرُ هَذَا اللَّغَطِ أَيْضًا أَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ ثُمَّ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ ثُمَّ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ عِنْدَ تَرْكِيبِهِ مَعَ غَيْرِهِ، فَيَقُولُونَ: الْأَسَدُ مِنْ حَيْثُ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَخْصُوصُ، وَالْبَحْرُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ تَرْكِيبٍ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْأَسَدَ وَالْبَحْرَ وَغَيْرَهُمَا بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَلَا جُزْءَ كَلَامٍ وَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا، وَهُوَ صَوْتٌ يُنْعَقُ بِهِ ; يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تَعْتَبِرُوا تَحْقِيقَ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَكُونُ اللَّفْظُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ مَجَازًا أَوْ تَعْتَبِرُوا تَقْدِيرَهُ، فَإِنِ اشْتَرَطْتُمْ تَحْقِيقَهُ بَطَلَ التَّقْسِيمُ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَشْرُوطَ بِشَرْطٍ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِبَشَرٍ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُمَا الْوَضْعُ الْأَوَّلُ وَالنَّقْلُ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَبَرْتُمْ تَقْدِيرَهُ وَإِمْكَانَهُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، إِذْ مُجَرَّدُ التَّقْدِيرِ وَالِاحْتِمَالِ لَا يُوجِبُ تَقْسِيمَ الْكَلَامِ إِلَى مُسْتَعْمَلٍ فِي مَوْضُوعِهِ الْأَوَّلِ وَمُسْتَعْمَلٍ فِي مَوْضُوعِهِ الثَّانِي، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُمْكِنٌ أَفَيَجُوزُ هَذَا الْحُكْمُ وَالتَّقْسِيمُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالْإِمْكَانِ؟ يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إِمَّا أَنْ تَخُصُّوهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً أَوْ تَدَّعُوا عُمُومَهُ لِجَمِيعِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، فَإِنِ ادَّعَيْتُمْ خُصُوصَهُ بِلُغَةٍ بِالْعَرَبِ كَانَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا فَاسِدًا، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ وَالْمُبَالَغَةَ وَالِاسْتِعَارَةَ الَّتِي هِيَ جِهَاتُ التَّجَوُّزِ عِنْدَكُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute