للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ قَطُّ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا قَالَ عَرَبِيٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ دُونَ هَذَا الْمَعْنَى، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مَعَهُ قَرِينَةٌ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ تِلْكَ الْقَرِينَةِ، وَذَلِكَ بِالِاضْطِرَابِ لَهُمْ، لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ مَوْقِفٌ، بَلَى هُوَ مَعَهُمْ مِنْ أَصْلِ النَّشْأَةِ، وَهُمْ أَكْمَلُ عُقُولًا وَأَصَحُّ أَذْهَانًا أَنْ يُجَرِّدُوا الْأَلْفَاظَ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ وَيَنْعِقُوا بِهَا كَالْأَصْوَاتِ الْغُفْلِ الَّتِي لَا تُفِيدُ شَيْئًا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: قَوْلُكُمْ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ مَعْنًى، فَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ قَرِينَةٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُقَيَّدِ يُفِيدُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَلَّفًا مِنِ اسْمَيْنِ أَوْ مِنِ اسْمٍ وَفِعْلٍ، أَوْ مِنِ اسْمٍ وَحَرْفٍ، عَلَى رَأْيٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُعْرَفَ عَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ سِيَاقٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ يُعِينُ الْمُرَادَ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ السَّبْقَ إِلَى الْفَهْمِ بِدُونِ كُلِّ قَرِينَةٍ فَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمَنْظُومِ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَالُوا: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا بِقَرِينَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقَرِينَةُ اسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضُوعِهِ، وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ.

وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالِاسْتِعْمَالُ عِنْدَكُمْ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، إِمَّا بِالتَّضَمُّنِ عَلَى الرَّأْيِ الْأَوَّلِ وَإِمَّا بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الرَّأْيِ الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ لَا يَسْتَعْمِلُهُ الْعُقَلَاءُ، لَا مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيَّدًا، وَالِاسْتِعْمَالُ يُقَيِّدُهُ قَطْعًا وَلَا يَجْتَمِعُ قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْحَقِيقَةَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَقَوْلُكُمْ: هِيَ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ فَتَأَمَّلْهُ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَهُوَ مِمَّا يَرْفَعُ الْمَجَازَ بِالْكُلِّيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِيقَةِ السَّبْقَ إِلَى الْفَهْمِ، وَشَرَطُوا فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً الِاسْتِعْمَالَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، فَلَا يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِ أَحَدٍ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَرَسِ الَّذِي رَكِبَهُ: " إِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا " بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُسْتَبْحِرِ، فَإِنَّ فِي " وَجَدْنَاهُ " ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْفَرَسِ

<<  <   >  >>