الْأَسْوَدِ بِمَنْزِلَةِ مُقْبِلِ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُ صِفَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَعَيْنُ يَدِهِ الَّتِي خَلَقَ بِهَا آدَمَ وَيَطْوِي بِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَوْنُ الْحَرْبِ مَنْزِلَةَ التَّنُّورِ الَّذِي يُسَجَّرُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَشْتَدَّ حُمُوُّهُ، فَيَحْرِقُ مَا يُلْقَى فِيهِ، وَكَوْنُ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ يُوَسِّخُ الْبَدَنَ وَيُوهِنُهُ يُضْعِفُ قُوَاهُ، وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ يُزِيلُ دَرَنَهُ وَيُعِيدُ قُوَّتَهُ وَيَزِيدُهُ صَلَابَةً وَشِدَّةً، فَهَلْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةٌ إِلَّا ذَلِكَ وَمَا اسْتُعْمِلَتْ إِلَّا فِي حَقَائِقِهَا.
فَهَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّرْكِيبُ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالتَّرْكِيبَ فِي قَوْلِكَ: جَاءَ الثَّلْجُ حَتَّى عَمَّ الْأَرْضَ وَأَصَابَ الْبَرَدُ الزَّرْعَ، وَالْمَاءُ الْبَارِدُ يَرْوِي الظَّمْآنَ، وَالْأَسَدُ مَلِكُ الْوُحُوشِ، وَالسَّيْفُ مَلِكُ السِّلَاحِ، وَفِي قَطْعِ اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَإِذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ فَضَعْ فِيهِ الْعَجِينَ، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ، فَهَذَا مُقَيَّدٌ وَهَذَا مُقَيَّدٌ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ وَهَذَا مَوْضُوعٌ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ، فَأَيُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ عَقْلٍ أَوْ نَظِيرٍ، أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، أَوْ مُنَاسَبَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، أَوْ قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ جَعَلَ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ وَيَظْهَرُ جِدًّا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَهُوَ أَنَّ الْخَائِضِينَ فِي الْمَجَازِ تَارَةً يَخُوضُونَ فِيهِ إِخْبَارًا وَحَمْلًا لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يَخُوضُونَ فِيهِ اسْتِعْمَالًا فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ، فَيَنْقُلُونَ أَلْفَاظًا لَهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَعَانٍ أُخَرَ تُشَابِهُهَا، وَيَقُولُونَ: اسْتَعَرْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي، لَا يَخْرُجُ كَلَامُهُمْ فِي الْمَجَازِ عَنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْبَتَّةَ، فَيَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَمْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا قَالُوا: نَحْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَجَازِهِ، إِمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ فِي أَصْلِ التَّخَاطُبِ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا خَبَرٌ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ إِنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَإِمَّا كَذِبٌ إِنْ لَمْ يُطَابِقْ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومَ مِنْهُ عِنْدَ الْخِطَابِ.
وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْحَمْلِ أَنَّا نُنْشِئُ لَهُ مِنْ عِنْدِنَا وَضْعًا لِمَعْنَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ ثُمَّ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنْشَاءُ وَضْعٍ جَدِيدٍ لِذَلِكَ اللَّفْظِ وَالثَّانِي: اعْتِقَادُ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَنْزِيلُ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: الْيَدُ مَجَازٌ فِي الْقُدْرَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ فِي الِاسْتِيلَاءِ، وَالرَّحْمَةُ مَجَازٌ فِي الْإِنْعَامِ، وَالْغَضَبُ مَجَازٌ فِي الِانْتِقَامِ، وَالتَّكَلُّمُ مَجَازٌ فِي الْإِنْعَامِ، فِي الْإِكْرَامِ، قِيلَ: تَعْنُونَ بِكَوْنِهَا مَجَازًا فِي ذَلِكَ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَتُعَبِّرُونَ عَنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute